بسم الله الرحمن الرحيم
القدس والصحابه
القدس مدينة قديمة قدم التاريخ، ويؤكد مؤرّخون أنّ تحديد زمن بناء القدس غير معروف ولا يستطيع مؤرّخ تحديده وبداية وجودها مرتبطة بالمسجد الأقصى الذي بني بعد المسجد الحرام بـ40 عاماً، وتذكر المصادر التاريخية أنها كانت منذ نشأتها صحراء خالية من أودية وجبال، وقد كانت أولى الهجرات العربية الكنعانية إلى شمال شبه الجزيرة العربية قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف عام، واستقرّت على الضفة الغربية لنهر الأردن، ووصل امتدادها إلى البحر المتوسط، وسميت الأرض من النهر إلى البحر، بـ"أرض كنعان"، وأنشأ هؤلاء الكنعانيون مدينة (أورسالم).
وقد اتّخذت القبائل العربيّة الأولى من المدينة مركزاً لهم، " واستوطنوا فيها وارتبطوا بترابها، وهذا ما جعل اسم المدينة "يبوس". وقد صدّوا عنها غارات المصريين، وصدّوا عنها أيضاً قبائل العبرانيين التائهة في صحراء سيناء، كما نجحوا في صدّ الغزاة عنها أزماناً طوالاً.
خضعت مدينة القدس للنفوذ المصري الفرعوني بدءاً من القرن 16 ق.م، وفي عهد الملك أخناتون تعرّضت لغزو "الخابيرو" وهم قبائل من البدو، ولم يستطع الحاكم المصري عبدي خيبا أن ينتصر عليهم، فظلت المدينة بأيديهم إلى أن عادت مرة أخرى للنفوذ المصري في عهد الملك سيتي الأول 1317 – 1301 ق.م.
استولى الإسكندر الأكبر على فلسطين بما فيها القدس، وبعد وفاته استمر خلفاؤه المقدونيون والبطالمة في حكم المدينة، واستولى عليها في العام نفسه بطليموس وضمّها مع فلسطين إلى مملكته في مصر عام 323 ق.م، ثم في عام 198 ق.م أصبحت تابعة للسلوقيين في سوريا بعد أنْ ضمّها سيلوكس نيكاتور، وتأثر السكان في تلك الفترة بالحضارة الإغريقية.
استولى قائد الجيش الروماني بومبيجي على القدس عام 63 ق.م وضمّها إلى الإمبراطوية الرومانية، بعد ذلك انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين غربيّ وشرقيّ وكانت فلسطين من القسم الشرقي البيزنطي، وقد شهدت فلسطين بهذا التقسيم فترة استقرار دامت أكثر من مئتيْ عام، الأمر الذي ساعد على نموّ وازدهار البلاد اقتصادياً وتجارياً وكذلك عمرانياً، مما ساعد في ذلك مواسم الحج إلى الأماكن المقدسة.
ولم يدم هذا الاستقرار طويلاً، فقد دخل ملك الفرس "كسرى الثاني" (برويز) سوريا، وامتد زحفه حتى تمّ احتلال القدس وتدمير الكنائس والأماكن المقدسة ولاسيما كنيسة "القبر المقدس". ويُذكَر أنّ من تبقى من اليهود انضموا إلى الفرس في حملتهم هذه رغبةً منهم في الانتقام من المسيحيين، وهكذا فقد البيزنطيون سيطرتهم على البلاد. ولم يدمْ ذلك طويلاً، إذ أعاد الإمبراطور "هرقل" احتلال فلسطين سنة 628 م ولحق بالفرس إلى بلادهم واسترجع الصليب المقدس.
ممّا ذُكِر سابقاً يُستنتج أنّ الوجود اليهوديّ في فلسطين عموماً والقدس خصوصاً لم يكنْ إلا وجوداً طارئاً وفي فترة محدودة جدّاً من تاريخ القدس الطويل.
بدأت مرحلة الفتح الإسلامي للمدينة المقدّسة عندما أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وسلّم،حيث تجلّى الرابط الأول والمعنوي بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام في معجزة الإسراء والمعراج، ثم أتى الرابط المادّي أيام الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث دخل الخليفة عمر مدينة القدس سنة 636/15هـ (أو 638م على اختلاف في المصادر) بعد أنْ انتصر الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، واشترط البطريرك صفرونيوس أنْ يتسلّم عمر المدينة بنفسه فكتب معهم "العهدة العمرية" وغيّر عمر بن الخطّاب اسم المدينة من إيلياء إلى القدس فيما بعد.
واتخذت المدينة منذ ذلك الحين طابعها الإسلامي، واهتمّ بها الأمويون (661 - 750م) والعباسيون (750 - 878م). وشهدت نهضة علمية في مختلف الميادين.
وشهدت المدينة بعد ذلك عدم استقرارٍ بسبب الصراعات العسكرية التي نشبت بين العباسيين والفاطميين والقرامطة، وخضعت القدس لحكم السلاجقة عام 1071م، أما في العهود الطولوني والإخشيدي والفاطمي أصبحت القدس وفلسطين تابعة لمصر.
سقطت القدس في أيدي الفرنجة خمسة قرون من الحكم الإسلامي نتيجة صراعات على السلطة بين السلاجقة والفاطميين وبين السلاجقة أنفسهم.
استطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الفرنجة عام 1187م بعد معركة حطين، وعامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها، ثم اتجه صلاح الدين لتقديم أعظم هدية للمسجد، وكانت تلك الهدية هي المنبر الذي كان "نور الدين زنكي" قد بدأ في إعداده وكان هذا المنبر آيةً في الفن والروعة، ويعدّه الباحثون تحفة أثرية رائعة وأعظم مبنى في العالم الإسلامي.
ولكن الفرنجة نجحوا في السيطرة على المدينة بعد وفاة صلاح الدين في عهد الملك فريدريك ملك صقلية، وظلّت بأيدي الفرنجة 11 عاماً إلى أنْ استردّها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م.
وتعرّضت المدينة للغزو المغولي عام 1243/1244م، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام 1259م، وضمّت فلسطين بما فيها القدس إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية حتى عام 1517م.
دخل العثمانيون القدس بتاريخ 28 ديسمبر 1516م (الرابع من ذي الحجة 922هـ)، وبعد هذا التاريخ بيومين قام السلطان بزيارةٍ خاصة للمدينة المقدسة حيث خرج العلماء والشيوخ لملاقاة "سليم شاه" وسلّموه مفاتيح المسجد وقبة الصخرة. وأصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية وظلت في أيديهم أربعة قرون تقريبًا.
ويُشار إلى أنّ هناك بعض الحكّام المحليّين الأتراك والسلاطين في أواخر العهد العثمانيّ كان لهم دورٌ في زيادة الوجود اليهوديّ في مدينة القدس والسماح لليهود بممارسة طقوسهم الدينيّة أمام حائط البراق، ما ساعد في نشأة أسطورة الهيكل المزعوم آنذاك. سقطت القدس بيد الجيش البريطاني في 8-9/12/1917م بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920-1948).
أعلنت بريطانيا اعتزامها الانسحاب من فلسطين يوم 14 أيار/مايو 1948، وبحلول هذا التاريخ أعلن من يُسمّى بمُخلّص الدولة المؤقت"الإسرائيلي" عن قيام "دولة إسرائيل" الأمر الذي أعقبه دخول وحدات من الجيوش العربية للقتال إلى جانب سكان فلسطين، حيث أسفرت الحرب عن وقوع القدس الغربية بالإضافة إلى مناطق أخرى تقارب أربعة أخماس فلسطين تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيليّ.
مع اندلاع حرب حزيران 1967 أتيحت الفرصة الملائمة لدولة الاحتلال لاحتلال بقية المدينة، ففي صبيحة السابع من حزيران/يونيو 1967 بادر مناحيم بيغين لاقتحام المدينة القديمة، حيث تم الاستيلاء عليها بعد ظهر اليوم نفسه وعلى الفور أقيمت إدارة عسكرية للضفة الغربية وقام جيش الاحتلال بتنظيم وحدات الحكم العسكري لإدارة المناطق التي تحتلها دولة الاحتلال في حالة نشوب حرب.
شكّلت مدينة القدس عنوان المقاومة الفلسطينيّة هذه الأيّام، خصوصاً مع مشاريع التسوية التي أعقبت اتفاقات أوسلو عام 1994م. وكانت زيارة نائب رئيس وزراء الاحتلال الصهيونيّ السابق آرئييل شارون وانطلاقة انتفاضة الأقصى إثر ذلك إثباتاً على عنوان المرحلة المقبلة للمقاومة الفلسطينيّة. وفي المقابل تبذل السلطات اليهودية أقصى الجهد لطمس المعالم الإسلامية بالقدس رغبةً في تهويدها، فهي تعزلها عن باقي المناطق المحتلة، وتمنع الفلسطينيين من دخولها، وتدفع لها بعض اليهود، وتقيم بها أبنية على نسقٍ مغاير للملامح العربية والإسلامية، وتُحدِث بالمدينة بعض الأعمال التي من شأنها تغيير مكانة القدس سياسيّاً وديموجرافيّاً، كزرع المستوطنات والتضييق على سكان المدينة من العرب حتى يلجؤوا للهجرة. وستظل المعارك دائرة بين المسلمين واليهود إلى أنْ يتم تحرير الأقصى.
وإذا كانت ذاكرة الأمة قد ظلت داعية بمكانة القدس في هذا الصراع التاريخي المتعدد المراحل والحلقات.. فإن مهمة ثقافتنا المعاصرة هي الإبقاء على ذاكرة الأمة على وعيها الكامل بمكانة القدس الشريف، حتى يطلع الفجر الجديد.
يشغل الهيكل مكانة خاصة في وجدان اليهود الآن؛ إذ يعتبر أهم مبنى للعبادة حسب زعمهم، فقد مرَّ هذالقدس في الاعتقاد الإسلامي، لها مكانة دينية مرموقة، اتفق على ذلك المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، فهو إجماع الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها. ولا غرو أن يلتزم جميع المسلمين بوجوب الدفاع عن القدس، والغيرة عليها، والذود عن حماها، وحرماتها ومقدساتها، وبذل النفس والنفيس في سبيل حمايتها، ورد المعتدين عليها. وقد اختلف المسلمون، والعرب، والفلسطينيون في الموقف من قضية السلام مع إسرائيل، هل يجوز أو لا يجوز؟ وإن جاز، هل ينجح أو لا ينجح؟ ولكنهم جميعا –مسلمين وعربًا وفلسطينيين- لم يختلفوا حول عروبة القدس، وإسلاميتها، وضرورة بقائها عربية إسلامية، وفرضية مقاومة المحاولات الإسرائيلية المستميتة لتهويدها، وتغير معالمها، ومسخ شخصيتها التاريخية، ومحو مظاهر العروبة والإسلام والمسيحية منها. فللقدس قدسية إسلامية مقدورة، وهي تمثل في حس المسلمين ووعيهم الإسلامي: القبلة الأولى، وأرض الإسراء والمعراج، وثالث المدن المعظمة، وأرض النبوات والبركات، وأرض الرباط والجهاد كما سنبين ذلك فيما يلي:
القدس: القبلة الأولى
أول ما تمثله القدس في حس المسلمين وفي وعيهم وفكرهم الديني، أنها (القبلة الأولى) التي ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتوجهون إليها في صلاتهم منذ فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة للبعثة المحمدية، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، وظلوا يصلون إليها في مكة، وبعد هجرتهم إلى المدينة، ستة عشر شهرًا، حتى نزل القرآن يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، أو المسجد الحرام، كما قال تعالى:{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}البقرة:150. وفي المدينة المنورة معلم أثري بارز يؤكد هذه القضية، وهو مسجد القبلتين، الذي صلى فيه المسلمون صلاة واحدة بعضها إلى القدس، وبعضها إلى مكة. وهو لا يزال قائمًا وقد جدد وتُعهد، وهو يزار إلى اليوم ويصلى فيه.
وقد أثار اليهود في المدينة ضجة كبرى حول هذا التحول، ورد عليهم القرآن بأن الجهات كلها لله، وهو الذي يحدد أيها يكون القبلة لمن يصلى له، {سيقول السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قل: لله المشرق والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} إلى أن يقول:{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله، وما كان الله ليضيع إيمانكم}البقرة:142،143. فقد قالوا: إن صلاة المسلمين تلك السنوات قد ضاعت وأهدرت، لأنها لم تكن إلى قبلة صحيحة، فقال الله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم، لأنها كانت صلاة إلى قبلة صحيحة مرضية عنده
القدس أرض الإسراء والمعراج
وثاني ما تمثله القدس في الوعي الإسلامي: أن الله تعالى جعلها منتهى رحلة الإسراء الأرضية، ومبتدأ رحلة المعراج السماوية، فقد شاءت إرادة الله أن تبدأ هذه الرحلة الأرضية المحمدية الليلية المباركة من مكة ومن المسجد الحرام، حيث يقيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تنتهي عند المسجد الأقصى، ولم يكن هذا اعتباطًا ولا جزافا، بل كان ذلك بتدبير إلهي ولحكمة ربانية، وهي أن يلتقي خاتم الرسل والنبيين هناك بالرسل الكرام، ويصلي بهم إمامًا، وفي هذا إعلان عن انتقال القيادة الدينية للعالم من بني إسرائيل إلى أمة جديدة، ورسول جديد، وكتاب جديد: أمة عالمية، ورسول عالمي، وكتاب عالمي، كما قال تعالى:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}الأنبياء:104 ، {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا}الفرقان:1 .
لقد نص القرآن على مبتدأ هذه الرحلة ومنتهاها بجلاء في أول آية في السورة التي حملت اسم هذه الرحلة (سورة الإسراء) فقال تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا}الإسراء:1 . والآية لم تصف المسجد الحرام بأي صفة مع ماله من بركات وأمجاد، ولكنها وصفت المسجد الأقصى بهذا الوصف {الذي باركنا حوله}، وإذا كان ما حوله مباركًا، فمن باب أولى أن يكون هو مباركًا.
وقصة الإسراء والمعراج حافلة بالرموز والدلالات التي توحي بأهمية هذا المكان المبارك، الذي ربط فيه جبريل البراق، الدابة العجيبة التي كانت وسيلة الانتقال من مكة إلى القدس، وقد ربطها بالصخرة حتى يعود من الرحلة الأخرى، التي بدأت من القدس أو المسجد الأقصى إلى السموات العلا، إلى "سدرة المنتهى"، وقد أورث ذلك المسلمين من ذكريات الرحلة:الصخرة، وحائط البراق.
لو لم تكن القدس مقصودة في هذه الرحلة، لأمكن العروج من مكة إلى السماء مباشرة، ولكن المرور بهذه المحطة القدسية أمر مقصود، كما دل على ذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
ومن ثمرات رحلة الإسراء: الربط بين مبتدأ الإسراء ومنتهاه، وبعبارة أخرى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا الربط له إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المسلم وضميره ووجدانه، بحيث لا تنفصل قدسية أحد المسجدين عن قدسية الآخر، ومن فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر.
القدس ثالث المدن المعظمة
والقدس ثالث المدن المعظمة في الإسلام. فالمدينة الأولى في الإسلام هي مكة المكرمة، التي شرفها الله بالمسجد الحرام. والمدينة الثانية في الإسلام هي طيبة، أو المدينة المنورة، التي شرفها الله بالمسجد النبوي، والتي ضمت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. والمدينة الثالثة في الإسلام هي القدس أو بيت المقدس، والتي شرفها الله بالمسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، وفي هذا صح الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".
فالمساجد كلها متساوية في مثوبة من صلى فيها، ولا يجوز للمسلم أن يشد رحاله، بمعنى أن يعزم على السفر والارتحال للصلاة في أي مسجد كان، إلا للصلاة في هذه الثلاثة المتميزة. وقد جاء الحديث بصيغة الحصر، فلا يقاس عليها غيرها.
وقد أعلن القرآن عن أهمية المسجد الأقصى وبركته، قبل بناء المسجد النبوي، وقبل الهجرة بسنوات، وقد جاءت الأحاديث النبوية تؤكد ما قرره القرآن، منها الحديث المذكور، والحديث الآخر: {الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ما عدا المسجد الحرام، والمسجد النبوي}(متفق عليه) ومنها، ما رواه أبوذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي المساجد بُني في الأرض أول؟ قال:"المسجد الحرام"، قيل ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى".
والإسلام حين جعل المسجد الأقصى ثالث المسجدين العظيمين في الإسلام، وبالتالي أضاف القدس إلى المدينتين الإسلاميتين المعظمتين: مكة والمدينة، إنما أراد بذلك أن يقرر مبدأ هاما من مبادئه، وهو أنه جاء ليبني لا ليهدم، وليتمم لا ليحطم، فالقدس كانت أرض النبوات، والمسلمون أولى الناس بأنبياء الله ورسله.
القدس أرض النبوات والبركات
والقدس جزء من أرض فلسطين، بل هي غرة جبينها، وواسطة عقدها، ولقد وصف الله هذه الأرض بالبركة في خمسة مواضع في كتابه.
أولها: في آية الإسراء حين وصف المسجد الأقصى بأنه {الذي باركنا حوله}.
وثانيها: حين تحدث في قصة خليله إبراهيم، فقال:{ونجيناه ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}الأنبياء:71.
وثالثها: في قصة موسى، حيث قال عن بني إسرائيل بعد إغراق فرعون وجنوده:{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا}الأعراف:137 .
ورابعها: في قصة سليمان وما سخر الله له من ملك لا ينبغي لأحد من بعده، ومنه تسخير الريح، وذلك في قوله تعالى:{ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها}الأنبياء:81 .
وخامسها: في قصة سبأ، وكيف منّ الله عليهم بالأمن والرغد، قال تعالى:{وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأيامًا آمنين}18. فهذه القرى التي بارك الله فيها هي قرى الشام وفلسطين. قال المفسر الآلوسي: المراد بالقرى التي بورك فيها: قرى الشام، لكثرة أشجارها وثمارها، والتوسعة على أهلها. وعن ابن عباس: هي قرى بيت المقدس، وقال ابن عطية: إن إجماع المفسرين عليه .
وقد ذهب عدد من مفسري القرآن من علماء السلف والخلف في قوله تعالى:{والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين}التين:1-3 إلى أن التين والزيتون يقصد بهما الأرض أو البلدة التي تنبت التين والزيتون، وهي بيت المقدس.
قال ابن كثير: قال بعض الأئمة: هذه محالّ ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيًا مرسلاً من أولى العزم، أصحاب الشرائع الكبار. فالأول: محل التين والزيتون، وهو بيت المقدس، الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام، والثاني: طور سيناء، الذي كلم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنًا. وبهذا التفسير أو التأويل، تتناغم وتنسجم هذه الأقسام، فإذا كان البلد الأمين يشير إلى منبت الإسلام رسالة محمد، وطور سينين يشير إلى منبت اليهودية رسالة موسى، فإن التين والزيتون يشير إلى رسالة عيسى، الذي نشأ في جوار بيت المقدس، وقدم موعظته الشهيرة في جبل الزيتون .
أرض الرباط والجهاد
والقدس عند المسلمين هي أرض الرباط والجهاد. فقد كان حديث القرآن عن المسجد الأقصى، وحديث الرسول عن فضل الصلاة فيه، من المبشرات بأن القدس سيفتحها الإسلام، وستكون للمسلمين، وسيشدون الرحال إلى مسجدها، مصلين لله متعبدين. وقد فتحت القدس –التي كانت تسمى إيلياء- في عهد الخليفة الثاني في الإسلام عمر بن الخطاب، واشترط بطريركها الأكبر صفرونيوس ألا يسلم مفاتيح المدينة إلا للخليفة نفسه، لا لأحد من قواده، وقد جاء عمر من المدينة إلى القدس في رحلة تاريخية مثيرة، وتسلم مفاتيح المدينة، وعقد مع أهلها من النصارى معاهدة أو اتفاقية معروفة في التاريخ بإسم "العهد العمري" أو "العهدة العمرية" أمنهم فيها على معابدهم وعقائدهم وشعائرهم وأنفسهم وأموالهم، وشهد على هذه الوثيقة عدد من قادة المسلمين، أمثال: خالد بن الوليد، وعبدالرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان .
وقد أعلم الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأرض المقدسة سيحتلها الأعداء، أو يهددونها بالغزو والاحتلال، ولهذا حرض أمته على الرباط فيها، والجهاد للدفاع عنها حتى لا تسقط في أيدي الأعداء، ولتحريرها إذا قدر لها أن تسقط في أيديهم. كما أخبر عليه الصلاة والسلام بالمعركة المرتقبة بين المسلمين واليهود، وأن النصر في النهاية سيكون للمسلمين عليهم، وأن كل شيء سيكون في صف المسلمين حتى الحجر والشجر، وأن كلا منهما سينطق دالاً على أعدائهم، سواء كان نطقًا بلسان الحال أم بلسان المقال . وقد روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم، إلا ما أصابهم من لأواء (أي أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" .
المكانة الدينية للقدس
لقد سجل القرآن الكريم مكانة القدس حين وضح أن الله سبحانه تعالى أسرى بعبده وحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث قال جل شأنه: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". وسُمِّي بالمسجد الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة والمراد بالبركة المذكورة في الآية الكريمة في قوله تعالى "الذي باركنا حوله" البركة الحسية والمعنوية، فأما الحسية فهي ما أنعم الله تعالى به على تلك البقاع من الثمار والزروع والأنهار، وأما المعنوية فهي ما اشتملت عليه من جوانب روحية ودينية، حيث كانت مهبط الصالحين والأنبياء والمرسلين ومسرى خاتم النبيين، وقد دفن حول المسجد الأقصى كثير من الأنبياء والصالحين.
بيت المقدس قطعة من الجنة
ومما يدل على فضل بيت المقدس ومكانته أنه أرض المحشر والمنشر، وعن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت قلت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ قال: "أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره"، وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس".
وفي مدينة القدس دفن عدد كبير من الصحابة والتابعين منهم الصحابي الجليل عبادة بن الصامت وشداد بن أوس -رضي الله عنهما- فهو مهد النبوات والشرائع والرسل الذين وجدوا هناك في هذا العصر، ولقد كان المسجد الأقصى قبلة لهم، وهذا كله يمثل البركة الدينية التي أحاطت به، وأما البركة الدنيوية فكثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض، وهذا ما يراد بقوله تعالى "الذي بركنا حوله"، وروي أن الذي أسس المسجد الأقصى هو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام بعد بناء إبراهيم الكعبة، وقد قام سليمان عليه السلام بتجديده، وقد أشكل ذلك؛ لأن باني البيت الحرام إبراهيم عليه السلام وباني المسجد الأقصى داود وابنه سليمان بعده وبينهما مدة طويلة تزيد على الأربعين التي ذكرت في الحديث المروي في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع على الأرض فقال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي، قال: "المسجد الأقصى" قلت: وكم بينهما؟ قال: "أربعون عامًا، ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركت الصلاة فصل فيه فإن الفضل فيه".
وللمسجد الأقصى ارتباط وثيق بعقيدتنا وله ذكريات عزيزة وغالية على الإسلام والمسلمين، فهو مقر للعبادة ومهبط للوحي، ومنتهى رحلة الإسراء وبداية رحلة المعراج، وقد مرّ الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى المسجد الأقصى بالبقعة المباركة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام وهي طور سيناء فصلى بها ركعتين، ومرّ بالبقعة المباركة التي وُلِد فيها عيسى عليه السلام وهي بيت لحم، فصلى بها ركعتين، ثم وصل إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في جمع من الأنبياء والرسل، فصلى بهم جميعًا، ثم عرج به إلى السماء، فرأى من آيات ربه الكبرى، ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرحلة المباركة وأخبر قومه كان منهم من صدق ومنهم من كذب،
وقد اعتادت اليهودية الصهيونية وكيانها إسرائيل على اغتصاب التاريخ وتطويع وقائعه وأحداثه ومعطياته لخدمة أغراضها السياسية وكذلك على تشويهه ولي عنقه والباسه ثوب الأساطير والخرافات التوراتية لتجعل منها ديناً قائماً بحد ذاته. ومن هنا وليس غريباً ولا مستغرباً أن يعملا بكل ما أوتيا من قوة على تزوير التاريخ بما يتيح لهما تبرير احتلال الأرض العربية، والتشبث بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لها، وعليه فان اليهودية الصهيونية واسرائيل لا تتحدثان عن (اقامة اسرائيل)، بل عن (اعادة بناء الدولة اليهودية). كما لا تتحدثان عن (السيادة على أرض الميعاد/ فلسطين وعاصمتها القدس) وانما عن (استئناف السيادة عليها) المقطوعة لأسباب خارجة عن ارادة اليهود ولخطأ رباني - والعياذ بالله - مما يتقولون على الله سبحانه وتعالى.
المزاعم اليهودية الصهيونية حول مكانة القدس في الاسلام
اذن لما كان التاريخ والدين (الأساطير التوراتية) ركنين أساسيين في البناء العقائدي اليهودي الصهيوني، وكذلك في الاستراتيجية اليهودية الصهيونية، والسياسة الاسرائيلية نظرياً وعملياً، فيغدو مفهوماً لماذا تصر اليهودية الصهيونية، وكيانها اسرائيل على امطار العالم بسيل من المزاعم والادعاءات والأساطير الدينية التي تحاول من خلالها ان تبرهن للعالم بأن اليهود أصحاب حق ديني وتاريخي في فلسطين، وفي القدس عاصمة موحدة وأبدية لهم، وعدم أحقية غيرهم أي العرب والمسلمون بهذه الأرض مع أن العرب هم أول من سكنها. وهم الذين بنوا القدس ومنهم اتخذت اسمها وذلك قبل خمسة آلاف عام ونيف. ولكن ما المزاعم اليهودية الصهيونية والاسرائيلية التي ينطلقون منها في عدم أحقية العرب والمسلمين بالقدس؟ تستند المزاعم اليهودية الصهيونية والاسرائيلية الى الطروحات الآتية:
أولاً: عدم أهمية القدس للمسلمين العرب في أي زمن من الأزمان بدليل ان العرب لم يتخذوا منها عاصمة لهم.
ثانياً: ان اهتمام المسلمين بالقدس نابع من تأثير من اعتنقوا الاسلام وحملوا ذلك الاهتمام ومنهم الى الاسلام. بمعنى ان اهتمام المسلمين بالقدس نتيجة لتأثير العنصر اليهودي في الاسلام.
ثالثاً: ان اهتمام المسلمين بالقدس ذو طابع وثني بمعنى ان اهميتها النسبية لديهم متأتية من تقديسهم للصخرة، الأمر الذي يفسر عدم تحرر المسلمين العرب من تأثير عبادة الأوثان حتى بعد مضي أكثر من 1400 عام على دخولهم في الاسلام.
مكانة القدس في العقيدة الاسلامية
تقوم مكانة القدس في العقيدة الاسلامية على ثلاثة أصول عقائدية مترابطة عضوياً هي:
القدس مدينة الأنبياء
تستند العقيدة الاسلامية في أصولها إلى الايمان المطلق بالرسل والأنبياء والرسالات السماوية بدليل قوله سبحانه وتعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13).
كما ان الاسلام جاء مصدقاً للرسالات السماوية التي سبقته .. اذ يقول سبحانه وتعالى في هذا السياق: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالانْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)(آل عمران:3-4). وقوله تعالى كذلك: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48). وقوله سبحانه وتعالى مقرراً وكاشفاً لحقيقة قائمة: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285).
ان الاستشهاد فيما تقدم من آيات قرآنية كريمة يأتي في اطار التدليل على أن العديد من الأنبياء والرسل ممن وردت أسماؤهم بالنص قد أقاموا في القدس أو كانت لهم صلة بها بشكل أو بآخر ومنهم: ابراهيم، ويعقوب، واسحق، وعيسى، ويحيى، وزكريا، وصالح، وغيرهم صلوات الله عليهم جميعاً. لا بل هناك روايات تاريخية قديمة متوارثة تذهب الى ما هو أبعد من ذلك اذ تتحدث عن صلة بين القدس وبين آدم ونوح وسام بن نوح.
ومما يعزز ارتباط القدس والمسجد الأقصى بالأنبياء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طبقاً لما جاء في الأثر: "بيت المقدس بنته الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعمرته، وما فيه موضع شبر الا وقد سجد عليه ملك". وكذلك قول مقاتل بن سليمان "ما في موضع شبر الا وقد صلى عليه نبي مرسل أو قام عليه ملك مقرب".
القدس مدينة الاسراء والمعراج
أهمية الاسراء انها ربطت ربطاً عقائدياً لا انفصام له بين مكة المكرمة حيث المسجد الحرام وبيت القدس حيث المسجد الأقصى. هذا الحدث الروحي العظيم خلده القرآن الكريم في مطلع سورة الاسراء بقوله سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الاسراء:1) وتزداد مكانة القدس في العقيدة الاسلامية رسوخاً ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أم فيها بالملائكة والأنبياء. فقد روي عن قصة الاسراء: (ان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وقف البراق في الموقف الذي كان يقف فيه الأنبياء من قبل قال: ثم دخل جبريل أمامه فأذن جبريل ونزل ملائكة من السماء ، وحشر الله المرسلين ثم اقام الصلاة، وصلى النبي صلى الله علية وسلم بالملائكة والمرسلين".
كما تروي كتب التفسير بان الآية الكريمة (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف:45)، قد نزلت في بيت المقدس ليلة الاسراء. كما روي عن ابي امامة الباهلي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت علي النبوة في ثلاث أمكنة بمكة والمدينة والشام". حديث صحيح
ويرى علماء المسلمين أن حادثة الاسراء والمعراج قد حصلت في مرحلة مبكرة من البعثة النبوية الشريفة على اختلاف الاجتهادات بشأن تاريخها. اذ يقول البعض بأنها كانت قبل الهجرة بثلاث سنوات، بينما يرى البعض الآخر بأنها وقعت قبل سنة واحدة من الهجرة وآخرون قبل خمس سنوات. دليل على أن مكانتها في العقيدة الاسلامية تعود لفترة مبكرة من ظهور العقيدة الاسلامية.
القدس قبلة المسلمين الأولى
مما لا شك فيه أن القدس كانت قبلة المسلمين الأولى. وظلت على مدى ستة عشر أو سبعة عشر أو ثمانية عشر شهراً بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الى المدينة القبلة التي توجه اليها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل التحول الى مكة بأمر رباني في السنة الثانية من الهجرة بدليل قوله تعالى : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة:144). واذا ما عرف المرء أن بيت المقدس كانت قبلة المسلمين منذ أن فرض الله الصلاة على المسلمين عام 610م وحتى 623م، أي السنة الثانية للهجرة فيكون مجموع سنوات توجه المسلمين في صلواتهم الى بيت المقدس ثلاثة عشر عاماً.
فضائل بيت المقدس
واستناداً الى هذه الأصول العقيدية والمرتكزات الروحية لمكانة القدس في العقيدة الاسلامية ترتبت فضائل كثيرة لبيت المقدس. فما هي يا ترى تلك الفضائل؟
يمكن تلخيص تلك الفضائل بالاستناد الى الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بالآتي:
فضل الاقامة والسكن في بيت المقدس وزيارتها
وهو ما دعا اليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة منها ما روي عن ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "نعم المسكن بيت المقدس" وحديث رواه مكحول: "من زار بيت المقدس شوقاً اليه دخل الجنة". زد على ذلك أن المسلمين سيهاجرون في نهاية الزمان الى بيت المقدس. ففي حديث رواه ابن الفقيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستهاجرون هجرة الى مهاجر ابراهيم، أي بيت المقدس". وعن ابن جريح عن عطاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يسوق الله خيار عباده الى بيت المقدس والى الأرض المقدسة، فيسكنهم اياها". وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، المسجد الأقصى، ومسجدي هذا". حديث صحيح.
الربط بين مكة والمدينة وبيت المقدس
المسجد الأقصى: هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى". ومعنى هذا الحديث أنه لا يسافر أحد لمسجد للصلاة فيه إلا لهذه المساجد الثلاثة لا أنه لا يسافر أصلاً إلا لها، وقد بني المسجد الأقصى بعد المسجد الحرام بأربعين سنة كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة، وأينما أدركت الصلاة فصل فهو مسجد". وللمسجد الأقصى مكانته الجليلة في الإسلام فهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. روى الطبري في تاريخه عن قتادة قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وبعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا.
فضل الاهلال بالحج والعمرة من بيت المقدس
ومن الأحاديث في هذا الخصوص ما روته أم مسلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فيه: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة".
فضل الصلاة في بيت المقدس
يمكن القول بأن فضل الصلاة في المسجد الأقصى تتراوح استناداً الى الأحاديث النبوية الشريفة ما بين ألف صلاة الى خمسين ألف صلاة. كما أن الصلاة في بيت المقدس تطهر الانسان من الذنوب فيخرج الانسان كما ولدته أمه : ففي هذا الخصوص روي عن مكحول حديث جاء فيه: "ان من صلى في بيت المقدس … خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وعن قتادة عن أنس: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ومن صلى ببيت المقدس خمس صلوات نافلة كل صلاة أربع ركعات يقرأ في الخمس صلوات عشرة آلاف مرة "قل هو الله أحد" فقد اشترى نفسه من الله تبارك وتعالى ليس للنار عليه سلطان".
القدس والصحابه
القدس مدينة قديمة قدم التاريخ، ويؤكد مؤرّخون أنّ تحديد زمن بناء القدس غير معروف ولا يستطيع مؤرّخ تحديده وبداية وجودها مرتبطة بالمسجد الأقصى الذي بني بعد المسجد الحرام بـ40 عاماً، وتذكر المصادر التاريخية أنها كانت منذ نشأتها صحراء خالية من أودية وجبال، وقد كانت أولى الهجرات العربية الكنعانية إلى شمال شبه الجزيرة العربية قبل الميلاد بنحو ثلاثة آلاف عام، واستقرّت على الضفة الغربية لنهر الأردن، ووصل امتدادها إلى البحر المتوسط، وسميت الأرض من النهر إلى البحر، بـ"أرض كنعان"، وأنشأ هؤلاء الكنعانيون مدينة (أورسالم).
وقد اتّخذت القبائل العربيّة الأولى من المدينة مركزاً لهم، " واستوطنوا فيها وارتبطوا بترابها، وهذا ما جعل اسم المدينة "يبوس". وقد صدّوا عنها غارات المصريين، وصدّوا عنها أيضاً قبائل العبرانيين التائهة في صحراء سيناء، كما نجحوا في صدّ الغزاة عنها أزماناً طوالاً.
خضعت مدينة القدس للنفوذ المصري الفرعوني بدءاً من القرن 16 ق.م، وفي عهد الملك أخناتون تعرّضت لغزو "الخابيرو" وهم قبائل من البدو، ولم يستطع الحاكم المصري عبدي خيبا أن ينتصر عليهم، فظلت المدينة بأيديهم إلى أن عادت مرة أخرى للنفوذ المصري في عهد الملك سيتي الأول 1317 – 1301 ق.م.
استولى الإسكندر الأكبر على فلسطين بما فيها القدس، وبعد وفاته استمر خلفاؤه المقدونيون والبطالمة في حكم المدينة، واستولى عليها في العام نفسه بطليموس وضمّها مع فلسطين إلى مملكته في مصر عام 323 ق.م، ثم في عام 198 ق.م أصبحت تابعة للسلوقيين في سوريا بعد أنْ ضمّها سيلوكس نيكاتور، وتأثر السكان في تلك الفترة بالحضارة الإغريقية.
استولى قائد الجيش الروماني بومبيجي على القدس عام 63 ق.م وضمّها إلى الإمبراطوية الرومانية، بعد ذلك انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين غربيّ وشرقيّ وكانت فلسطين من القسم الشرقي البيزنطي، وقد شهدت فلسطين بهذا التقسيم فترة استقرار دامت أكثر من مئتيْ عام، الأمر الذي ساعد على نموّ وازدهار البلاد اقتصادياً وتجارياً وكذلك عمرانياً، مما ساعد في ذلك مواسم الحج إلى الأماكن المقدسة.
ولم يدم هذا الاستقرار طويلاً، فقد دخل ملك الفرس "كسرى الثاني" (برويز) سوريا، وامتد زحفه حتى تمّ احتلال القدس وتدمير الكنائس والأماكن المقدسة ولاسيما كنيسة "القبر المقدس". ويُذكَر أنّ من تبقى من اليهود انضموا إلى الفرس في حملتهم هذه رغبةً منهم في الانتقام من المسيحيين، وهكذا فقد البيزنطيون سيطرتهم على البلاد. ولم يدمْ ذلك طويلاً، إذ أعاد الإمبراطور "هرقل" احتلال فلسطين سنة 628 م ولحق بالفرس إلى بلادهم واسترجع الصليب المقدس.
ممّا ذُكِر سابقاً يُستنتج أنّ الوجود اليهوديّ في فلسطين عموماً والقدس خصوصاً لم يكنْ إلا وجوداً طارئاً وفي فترة محدودة جدّاً من تاريخ القدس الطويل.
بدأت مرحلة الفتح الإسلامي للمدينة المقدّسة عندما أسري بالنبي محمد صلى الله عليه وسلّم،حيث تجلّى الرابط الأول والمعنوي بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام في معجزة الإسراء والمعراج، ثم أتى الرابط المادّي أيام الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث دخل الخليفة عمر مدينة القدس سنة 636/15هـ (أو 638م على اختلاف في المصادر) بعد أنْ انتصر الجيش الإسلامي بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، واشترط البطريرك صفرونيوس أنْ يتسلّم عمر المدينة بنفسه فكتب معهم "العهدة العمرية" وغيّر عمر بن الخطّاب اسم المدينة من إيلياء إلى القدس فيما بعد.
واتخذت المدينة منذ ذلك الحين طابعها الإسلامي، واهتمّ بها الأمويون (661 - 750م) والعباسيون (750 - 878م). وشهدت نهضة علمية في مختلف الميادين.
وشهدت المدينة بعد ذلك عدم استقرارٍ بسبب الصراعات العسكرية التي نشبت بين العباسيين والفاطميين والقرامطة، وخضعت القدس لحكم السلاجقة عام 1071م، أما في العهود الطولوني والإخشيدي والفاطمي أصبحت القدس وفلسطين تابعة لمصر.
سقطت القدس في أيدي الفرنجة خمسة قرون من الحكم الإسلامي نتيجة صراعات على السلطة بين السلاجقة والفاطميين وبين السلاجقة أنفسهم.
استطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الفرنجة عام 1187م بعد معركة حطين، وعامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها، ثم اتجه صلاح الدين لتقديم أعظم هدية للمسجد، وكانت تلك الهدية هي المنبر الذي كان "نور الدين زنكي" قد بدأ في إعداده وكان هذا المنبر آيةً في الفن والروعة، ويعدّه الباحثون تحفة أثرية رائعة وأعظم مبنى في العالم الإسلامي.
ولكن الفرنجة نجحوا في السيطرة على المدينة بعد وفاة صلاح الدين في عهد الملك فريدريك ملك صقلية، وظلّت بأيدي الفرنجة 11 عاماً إلى أنْ استردّها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م.
وتعرّضت المدينة للغزو المغولي عام 1243/1244م، لكن المماليك هزموهم بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في معركة عين جالوت عام 1259م، وضمّت فلسطين بما فيها القدس إلى المماليك الذين حكموا مصر والشام بعد الدولة الأيوبية حتى عام 1517م.
دخل العثمانيون القدس بتاريخ 28 ديسمبر 1516م (الرابع من ذي الحجة 922هـ)، وبعد هذا التاريخ بيومين قام السلطان بزيارةٍ خاصة للمدينة المقدسة حيث خرج العلماء والشيوخ لملاقاة "سليم شاه" وسلّموه مفاتيح المسجد وقبة الصخرة. وأصبحت القدس مدينة تابعة للإمبراطورية العثمانية وظلت في أيديهم أربعة قرون تقريبًا.
ويُشار إلى أنّ هناك بعض الحكّام المحليّين الأتراك والسلاطين في أواخر العهد العثمانيّ كان لهم دورٌ في زيادة الوجود اليهوديّ في مدينة القدس والسماح لليهود بممارسة طقوسهم الدينيّة أمام حائط البراق، ما ساعد في نشأة أسطورة الهيكل المزعوم آنذاك. سقطت القدس بيد الجيش البريطاني في 8-9/12/1917م بعد البيان الذي أذاعه الجنرال البريطاني اللنبي، ومنحت عصبة الأمم بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وأصبحت القدس عاصمة فلسطين تحت الانتداب البريطاني (1920-1948).
أعلنت بريطانيا اعتزامها الانسحاب من فلسطين يوم 14 أيار/مايو 1948، وبحلول هذا التاريخ أعلن من يُسمّى بمُخلّص الدولة المؤقت"الإسرائيلي" عن قيام "دولة إسرائيل" الأمر الذي أعقبه دخول وحدات من الجيوش العربية للقتال إلى جانب سكان فلسطين، حيث أسفرت الحرب عن وقوع القدس الغربية بالإضافة إلى مناطق أخرى تقارب أربعة أخماس فلسطين تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيليّ.
مع اندلاع حرب حزيران 1967 أتيحت الفرصة الملائمة لدولة الاحتلال لاحتلال بقية المدينة، ففي صبيحة السابع من حزيران/يونيو 1967 بادر مناحيم بيغين لاقتحام المدينة القديمة، حيث تم الاستيلاء عليها بعد ظهر اليوم نفسه وعلى الفور أقيمت إدارة عسكرية للضفة الغربية وقام جيش الاحتلال بتنظيم وحدات الحكم العسكري لإدارة المناطق التي تحتلها دولة الاحتلال في حالة نشوب حرب.
شكّلت مدينة القدس عنوان المقاومة الفلسطينيّة هذه الأيّام، خصوصاً مع مشاريع التسوية التي أعقبت اتفاقات أوسلو عام 1994م. وكانت زيارة نائب رئيس وزراء الاحتلال الصهيونيّ السابق آرئييل شارون وانطلاقة انتفاضة الأقصى إثر ذلك إثباتاً على عنوان المرحلة المقبلة للمقاومة الفلسطينيّة. وفي المقابل تبذل السلطات اليهودية أقصى الجهد لطمس المعالم الإسلامية بالقدس رغبةً في تهويدها، فهي تعزلها عن باقي المناطق المحتلة، وتمنع الفلسطينيين من دخولها، وتدفع لها بعض اليهود، وتقيم بها أبنية على نسقٍ مغاير للملامح العربية والإسلامية، وتُحدِث بالمدينة بعض الأعمال التي من شأنها تغيير مكانة القدس سياسيّاً وديموجرافيّاً، كزرع المستوطنات والتضييق على سكان المدينة من العرب حتى يلجؤوا للهجرة. وستظل المعارك دائرة بين المسلمين واليهود إلى أنْ يتم تحرير الأقصى.
وإذا كانت ذاكرة الأمة قد ظلت داعية بمكانة القدس في هذا الصراع التاريخي المتعدد المراحل والحلقات.. فإن مهمة ثقافتنا المعاصرة هي الإبقاء على ذاكرة الأمة على وعيها الكامل بمكانة القدس الشريف، حتى يطلع الفجر الجديد.
يشغل الهيكل مكانة خاصة في وجدان اليهود الآن؛ إذ يعتبر أهم مبنى للعبادة حسب زعمهم، فقد مرَّ هذالقدس في الاعتقاد الإسلامي، لها مكانة دينية مرموقة، اتفق على ذلك المسلمون بجميع طوائفهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، فهو إجماع الأمة كلها من أقصاها إلى أقصاها. ولا غرو أن يلتزم جميع المسلمين بوجوب الدفاع عن القدس، والغيرة عليها، والذود عن حماها، وحرماتها ومقدساتها، وبذل النفس والنفيس في سبيل حمايتها، ورد المعتدين عليها. وقد اختلف المسلمون، والعرب، والفلسطينيون في الموقف من قضية السلام مع إسرائيل، هل يجوز أو لا يجوز؟ وإن جاز، هل ينجح أو لا ينجح؟ ولكنهم جميعا –مسلمين وعربًا وفلسطينيين- لم يختلفوا حول عروبة القدس، وإسلاميتها، وضرورة بقائها عربية إسلامية، وفرضية مقاومة المحاولات الإسرائيلية المستميتة لتهويدها، وتغير معالمها، ومسخ شخصيتها التاريخية، ومحو مظاهر العروبة والإسلام والمسيحية منها. فللقدس قدسية إسلامية مقدورة، وهي تمثل في حس المسلمين ووعيهم الإسلامي: القبلة الأولى، وأرض الإسراء والمعراج، وثالث المدن المعظمة، وأرض النبوات والبركات، وأرض الرباط والجهاد كما سنبين ذلك فيما يلي:
القدس: القبلة الأولى
أول ما تمثله القدس في حس المسلمين وفي وعيهم وفكرهم الديني، أنها (القبلة الأولى) التي ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتوجهون إليها في صلاتهم منذ فرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج في السنة العاشرة للبعثة المحمدية، أي قبل الهجرة بثلاث سنوات، وظلوا يصلون إليها في مكة، وبعد هجرتهم إلى المدينة، ستة عشر شهرًا، حتى نزل القرآن يأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، أو المسجد الحرام، كما قال تعالى:{ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}البقرة:150. وفي المدينة المنورة معلم أثري بارز يؤكد هذه القضية، وهو مسجد القبلتين، الذي صلى فيه المسلمون صلاة واحدة بعضها إلى القدس، وبعضها إلى مكة. وهو لا يزال قائمًا وقد جدد وتُعهد، وهو يزار إلى اليوم ويصلى فيه.
وقد أثار اليهود في المدينة ضجة كبرى حول هذا التحول، ورد عليهم القرآن بأن الجهات كلها لله، وهو الذي يحدد أيها يكون القبلة لمن يصلى له، {سيقول السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قل: لله المشرق والمغرب، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} إلى أن يقول:{وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله، وما كان الله ليضيع إيمانكم}البقرة:142،143. فقد قالوا: إن صلاة المسلمين تلك السنوات قد ضاعت وأهدرت، لأنها لم تكن إلى قبلة صحيحة، فقال الله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أي صلاتكم، لأنها كانت صلاة إلى قبلة صحيحة مرضية عنده
القدس أرض الإسراء والمعراج
وثاني ما تمثله القدس في الوعي الإسلامي: أن الله تعالى جعلها منتهى رحلة الإسراء الأرضية، ومبتدأ رحلة المعراج السماوية، فقد شاءت إرادة الله أن تبدأ هذه الرحلة الأرضية المحمدية الليلية المباركة من مكة ومن المسجد الحرام، حيث يقيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تنتهي عند المسجد الأقصى، ولم يكن هذا اعتباطًا ولا جزافا، بل كان ذلك بتدبير إلهي ولحكمة ربانية، وهي أن يلتقي خاتم الرسل والنبيين هناك بالرسل الكرام، ويصلي بهم إمامًا، وفي هذا إعلان عن انتقال القيادة الدينية للعالم من بني إسرائيل إلى أمة جديدة، ورسول جديد، وكتاب جديد: أمة عالمية، ورسول عالمي، وكتاب عالمي، كما قال تعالى:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}الأنبياء:104 ، {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا}الفرقان:1 .
لقد نص القرآن على مبتدأ هذه الرحلة ومنتهاها بجلاء في أول آية في السورة التي حملت اسم هذه الرحلة (سورة الإسراء) فقال تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا}الإسراء:1 . والآية لم تصف المسجد الحرام بأي صفة مع ماله من بركات وأمجاد، ولكنها وصفت المسجد الأقصى بهذا الوصف {الذي باركنا حوله}، وإذا كان ما حوله مباركًا، فمن باب أولى أن يكون هو مباركًا.
وقصة الإسراء والمعراج حافلة بالرموز والدلالات التي توحي بأهمية هذا المكان المبارك، الذي ربط فيه جبريل البراق، الدابة العجيبة التي كانت وسيلة الانتقال من مكة إلى القدس، وقد ربطها بالصخرة حتى يعود من الرحلة الأخرى، التي بدأت من القدس أو المسجد الأقصى إلى السموات العلا، إلى "سدرة المنتهى"، وقد أورث ذلك المسلمين من ذكريات الرحلة:الصخرة، وحائط البراق.
لو لم تكن القدس مقصودة في هذه الرحلة، لأمكن العروج من مكة إلى السماء مباشرة، ولكن المرور بهذه المحطة القدسية أمر مقصود، كما دل على ذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
ومن ثمرات رحلة الإسراء: الربط بين مبتدأ الإسراء ومنتهاه، وبعبارة أخرى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا الربط له إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المسلم وضميره ووجدانه، بحيث لا تنفصل قدسية أحد المسجدين عن قدسية الآخر، ومن فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر.
القدس ثالث المدن المعظمة
والقدس ثالث المدن المعظمة في الإسلام. فالمدينة الأولى في الإسلام هي مكة المكرمة، التي شرفها الله بالمسجد الحرام. والمدينة الثانية في الإسلام هي طيبة، أو المدينة المنورة، التي شرفها الله بالمسجد النبوي، والتي ضمت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. والمدينة الثالثة في الإسلام هي القدس أو بيت المقدس، والتي شرفها الله بالمسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، وفي هذا صح الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا".
فالمساجد كلها متساوية في مثوبة من صلى فيها، ولا يجوز للمسلم أن يشد رحاله، بمعنى أن يعزم على السفر والارتحال للصلاة في أي مسجد كان، إلا للصلاة في هذه الثلاثة المتميزة. وقد جاء الحديث بصيغة الحصر، فلا يقاس عليها غيرها.
وقد أعلن القرآن عن أهمية المسجد الأقصى وبركته، قبل بناء المسجد النبوي، وقبل الهجرة بسنوات، وقد جاءت الأحاديث النبوية تؤكد ما قرره القرآن، منها الحديث المذكور، والحديث الآخر: {الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ما عدا المسجد الحرام، والمسجد النبوي}(متفق عليه) ومنها، ما رواه أبوذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي المساجد بُني في الأرض أول؟ قال:"المسجد الحرام"، قيل ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى".
والإسلام حين جعل المسجد الأقصى ثالث المسجدين العظيمين في الإسلام، وبالتالي أضاف القدس إلى المدينتين الإسلاميتين المعظمتين: مكة والمدينة، إنما أراد بذلك أن يقرر مبدأ هاما من مبادئه، وهو أنه جاء ليبني لا ليهدم، وليتمم لا ليحطم، فالقدس كانت أرض النبوات، والمسلمون أولى الناس بأنبياء الله ورسله.
القدس أرض النبوات والبركات
والقدس جزء من أرض فلسطين، بل هي غرة جبينها، وواسطة عقدها، ولقد وصف الله هذه الأرض بالبركة في خمسة مواضع في كتابه.
أولها: في آية الإسراء حين وصف المسجد الأقصى بأنه {الذي باركنا حوله}.
وثانيها: حين تحدث في قصة خليله إبراهيم، فقال:{ونجيناه ولوطًا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}الأنبياء:71.
وثالثها: في قصة موسى، حيث قال عن بني إسرائيل بعد إغراق فرعون وجنوده:{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا}الأعراف:137 .
ورابعها: في قصة سليمان وما سخر الله له من ملك لا ينبغي لأحد من بعده، ومنه تسخير الريح، وذلك في قوله تعالى:{ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها}الأنبياء:81 .
وخامسها: في قصة سبأ، وكيف منّ الله عليهم بالأمن والرغد، قال تعالى:{وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة، وقدرنا فيها السير، سيروا فيها ليالي وأيامًا آمنين}18. فهذه القرى التي بارك الله فيها هي قرى الشام وفلسطين. قال المفسر الآلوسي: المراد بالقرى التي بورك فيها: قرى الشام، لكثرة أشجارها وثمارها، والتوسعة على أهلها. وعن ابن عباس: هي قرى بيت المقدس، وقال ابن عطية: إن إجماع المفسرين عليه .
وقد ذهب عدد من مفسري القرآن من علماء السلف والخلف في قوله تعالى:{والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين}التين:1-3 إلى أن التين والزيتون يقصد بهما الأرض أو البلدة التي تنبت التين والزيتون، وهي بيت المقدس.
قال ابن كثير: قال بعض الأئمة: هذه محالّ ثلاثة بعث الله من كل واحد منها نبيًا مرسلاً من أولى العزم، أصحاب الشرائع الكبار. فالأول: محل التين والزيتون، وهو بيت المقدس، الذي بعث الله فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام، والثاني: طور سيناء، الذي كلم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنًا. وبهذا التفسير أو التأويل، تتناغم وتنسجم هذه الأقسام، فإذا كان البلد الأمين يشير إلى منبت الإسلام رسالة محمد، وطور سينين يشير إلى منبت اليهودية رسالة موسى، فإن التين والزيتون يشير إلى رسالة عيسى، الذي نشأ في جوار بيت المقدس، وقدم موعظته الشهيرة في جبل الزيتون .
أرض الرباط والجهاد
والقدس عند المسلمين هي أرض الرباط والجهاد. فقد كان حديث القرآن عن المسجد الأقصى، وحديث الرسول عن فضل الصلاة فيه، من المبشرات بأن القدس سيفتحها الإسلام، وستكون للمسلمين، وسيشدون الرحال إلى مسجدها، مصلين لله متعبدين. وقد فتحت القدس –التي كانت تسمى إيلياء- في عهد الخليفة الثاني في الإسلام عمر بن الخطاب، واشترط بطريركها الأكبر صفرونيوس ألا يسلم مفاتيح المدينة إلا للخليفة نفسه، لا لأحد من قواده، وقد جاء عمر من المدينة إلى القدس في رحلة تاريخية مثيرة، وتسلم مفاتيح المدينة، وعقد مع أهلها من النصارى معاهدة أو اتفاقية معروفة في التاريخ بإسم "العهد العمري" أو "العهدة العمرية" أمنهم فيها على معابدهم وعقائدهم وشعائرهم وأنفسهم وأموالهم، وشهد على هذه الوثيقة عدد من قادة المسلمين، أمثال: خالد بن الوليد، وعبدالرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان .
وقد أعلم الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأرض المقدسة سيحتلها الأعداء، أو يهددونها بالغزو والاحتلال، ولهذا حرض أمته على الرباط فيها، والجهاد للدفاع عنها حتى لا تسقط في أيدي الأعداء، ولتحريرها إذا قدر لها أن تسقط في أيديهم. كما أخبر عليه الصلاة والسلام بالمعركة المرتقبة بين المسلمين واليهود، وأن النصر في النهاية سيكون للمسلمين عليهم، وأن كل شيء سيكون في صف المسلمين حتى الحجر والشجر، وأن كلا منهما سينطق دالاً على أعدائهم، سواء كان نطقًا بلسان الحال أم بلسان المقال . وقد روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من جابههم، إلا ما أصابهم من لأواء (أي أذى) حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، قالوا: وأين هم يا رسول الله؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" .
المكانة الدينية للقدس
لقد سجل القرآن الكريم مكانة القدس حين وضح أن الله سبحانه تعالى أسرى بعبده وحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، حيث قال جل شأنه: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير". وسُمِّي بالمسجد الأقصى لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة والمراد بالبركة المذكورة في الآية الكريمة في قوله تعالى "الذي باركنا حوله" البركة الحسية والمعنوية، فأما الحسية فهي ما أنعم الله تعالى به على تلك البقاع من الثمار والزروع والأنهار، وأما المعنوية فهي ما اشتملت عليه من جوانب روحية ودينية، حيث كانت مهبط الصالحين والأنبياء والمرسلين ومسرى خاتم النبيين، وقد دفن حول المسجد الأقصى كثير من الأنبياء والصالحين.
بيت المقدس قطعة من الجنة
ومما يدل على فضل بيت المقدس ومكانته أنه أرض المحشر والمنشر، وعن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت قلت: يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ قال: "أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره"، وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنة فلينظر إلى بيت المقدس".
وفي مدينة القدس دفن عدد كبير من الصحابة والتابعين منهم الصحابي الجليل عبادة بن الصامت وشداد بن أوس -رضي الله عنهما- فهو مهد النبوات والشرائع والرسل الذين وجدوا هناك في هذا العصر، ولقد كان المسجد الأقصى قبلة لهم، وهذا كله يمثل البركة الدينية التي أحاطت به، وأما البركة الدنيوية فكثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض، وهذا ما يراد بقوله تعالى "الذي بركنا حوله"، وروي أن الذي أسس المسجد الأقصى هو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام بعد بناء إبراهيم الكعبة، وقد قام سليمان عليه السلام بتجديده، وقد أشكل ذلك؛ لأن باني البيت الحرام إبراهيم عليه السلام وباني المسجد الأقصى داود وابنه سليمان بعده وبينهما مدة طويلة تزيد على الأربعين التي ذكرت في الحديث المروي في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع على الأرض فقال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي، قال: "المسجد الأقصى" قلت: وكم بينهما؟ قال: "أربعون عامًا، ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركت الصلاة فصل فيه فإن الفضل فيه".
وللمسجد الأقصى ارتباط وثيق بعقيدتنا وله ذكريات عزيزة وغالية على الإسلام والمسلمين، فهو مقر للعبادة ومهبط للوحي، ومنتهى رحلة الإسراء وبداية رحلة المعراج، وقد مرّ الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى المسجد الأقصى بالبقعة المباركة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام وهي طور سيناء فصلى بها ركعتين، ومرّ بالبقعة المباركة التي وُلِد فيها عيسى عليه السلام وهي بيت لحم، فصلى بها ركعتين، ثم وصل إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في جمع من الأنبياء والرسل، فصلى بهم جميعًا، ثم عرج به إلى السماء، فرأى من آيات ربه الكبرى، ولما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرحلة المباركة وأخبر قومه كان منهم من صدق ومنهم من كذب،
وقد اعتادت اليهودية الصهيونية وكيانها إسرائيل على اغتصاب التاريخ وتطويع وقائعه وأحداثه ومعطياته لخدمة أغراضها السياسية وكذلك على تشويهه ولي عنقه والباسه ثوب الأساطير والخرافات التوراتية لتجعل منها ديناً قائماً بحد ذاته. ومن هنا وليس غريباً ولا مستغرباً أن يعملا بكل ما أوتيا من قوة على تزوير التاريخ بما يتيح لهما تبرير احتلال الأرض العربية، والتشبث بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لها، وعليه فان اليهودية الصهيونية واسرائيل لا تتحدثان عن (اقامة اسرائيل)، بل عن (اعادة بناء الدولة اليهودية). كما لا تتحدثان عن (السيادة على أرض الميعاد/ فلسطين وعاصمتها القدس) وانما عن (استئناف السيادة عليها) المقطوعة لأسباب خارجة عن ارادة اليهود ولخطأ رباني - والعياذ بالله - مما يتقولون على الله سبحانه وتعالى.
المزاعم اليهودية الصهيونية حول مكانة القدس في الاسلام
اذن لما كان التاريخ والدين (الأساطير التوراتية) ركنين أساسيين في البناء العقائدي اليهودي الصهيوني، وكذلك في الاستراتيجية اليهودية الصهيونية، والسياسة الاسرائيلية نظرياً وعملياً، فيغدو مفهوماً لماذا تصر اليهودية الصهيونية، وكيانها اسرائيل على امطار العالم بسيل من المزاعم والادعاءات والأساطير الدينية التي تحاول من خلالها ان تبرهن للعالم بأن اليهود أصحاب حق ديني وتاريخي في فلسطين، وفي القدس عاصمة موحدة وأبدية لهم، وعدم أحقية غيرهم أي العرب والمسلمون بهذه الأرض مع أن العرب هم أول من سكنها. وهم الذين بنوا القدس ومنهم اتخذت اسمها وذلك قبل خمسة آلاف عام ونيف. ولكن ما المزاعم اليهودية الصهيونية والاسرائيلية التي ينطلقون منها في عدم أحقية العرب والمسلمين بالقدس؟ تستند المزاعم اليهودية الصهيونية والاسرائيلية الى الطروحات الآتية:
أولاً: عدم أهمية القدس للمسلمين العرب في أي زمن من الأزمان بدليل ان العرب لم يتخذوا منها عاصمة لهم.
ثانياً: ان اهتمام المسلمين بالقدس نابع من تأثير من اعتنقوا الاسلام وحملوا ذلك الاهتمام ومنهم الى الاسلام. بمعنى ان اهتمام المسلمين بالقدس نتيجة لتأثير العنصر اليهودي في الاسلام.
ثالثاً: ان اهتمام المسلمين بالقدس ذو طابع وثني بمعنى ان اهميتها النسبية لديهم متأتية من تقديسهم للصخرة، الأمر الذي يفسر عدم تحرر المسلمين العرب من تأثير عبادة الأوثان حتى بعد مضي أكثر من 1400 عام على دخولهم في الاسلام.
مكانة القدس في العقيدة الاسلامية
تقوم مكانة القدس في العقيدة الاسلامية على ثلاثة أصول عقائدية مترابطة عضوياً هي:
القدس مدينة الأنبياء
تستند العقيدة الاسلامية في أصولها إلى الايمان المطلق بالرسل والأنبياء والرسالات السماوية بدليل قوله سبحانه وتعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (الشورى:13).
كما ان الاسلام جاء مصدقاً للرسالات السماوية التي سبقته .. اذ يقول سبحانه وتعالى في هذا السياق: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالانْجِيلَ* مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)(آل عمران:3-4). وقوله تعالى كذلك: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة:48). وقوله سبحانه وتعالى مقرراً وكاشفاً لحقيقة قائمة: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285).
ان الاستشهاد فيما تقدم من آيات قرآنية كريمة يأتي في اطار التدليل على أن العديد من الأنبياء والرسل ممن وردت أسماؤهم بالنص قد أقاموا في القدس أو كانت لهم صلة بها بشكل أو بآخر ومنهم: ابراهيم، ويعقوب، واسحق، وعيسى، ويحيى، وزكريا، وصالح، وغيرهم صلوات الله عليهم جميعاً. لا بل هناك روايات تاريخية قديمة متوارثة تذهب الى ما هو أبعد من ذلك اذ تتحدث عن صلة بين القدس وبين آدم ونوح وسام بن نوح.
ومما يعزز ارتباط القدس والمسجد الأقصى بالأنبياء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طبقاً لما جاء في الأثر: "بيت المقدس بنته الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعمرته، وما فيه موضع شبر الا وقد سجد عليه ملك". وكذلك قول مقاتل بن سليمان "ما في موضع شبر الا وقد صلى عليه نبي مرسل أو قام عليه ملك مقرب".
القدس مدينة الاسراء والمعراج
أهمية الاسراء انها ربطت ربطاً عقائدياً لا انفصام له بين مكة المكرمة حيث المسجد الحرام وبيت القدس حيث المسجد الأقصى. هذا الحدث الروحي العظيم خلده القرآن الكريم في مطلع سورة الاسراء بقوله سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الاسراء:1) وتزداد مكانة القدس في العقيدة الاسلامية رسوخاً ان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أم فيها بالملائكة والأنبياء. فقد روي عن قصة الاسراء: (ان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وقف البراق في الموقف الذي كان يقف فيه الأنبياء من قبل قال: ثم دخل جبريل أمامه فأذن جبريل ونزل ملائكة من السماء ، وحشر الله المرسلين ثم اقام الصلاة، وصلى النبي صلى الله علية وسلم بالملائكة والمرسلين".
كما تروي كتب التفسير بان الآية الكريمة (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (الزخرف:45)، قد نزلت في بيت المقدس ليلة الاسراء. كما روي عن ابي امامة الباهلي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت علي النبوة في ثلاث أمكنة بمكة والمدينة والشام". حديث صحيح
ويرى علماء المسلمين أن حادثة الاسراء والمعراج قد حصلت في مرحلة مبكرة من البعثة النبوية الشريفة على اختلاف الاجتهادات بشأن تاريخها. اذ يقول البعض بأنها كانت قبل الهجرة بثلاث سنوات، بينما يرى البعض الآخر بأنها وقعت قبل سنة واحدة من الهجرة وآخرون قبل خمس سنوات. دليل على أن مكانتها في العقيدة الاسلامية تعود لفترة مبكرة من ظهور العقيدة الاسلامية.
القدس قبلة المسلمين الأولى
مما لا شك فيه أن القدس كانت قبلة المسلمين الأولى. وظلت على مدى ستة عشر أو سبعة عشر أو ثمانية عشر شهراً بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الى المدينة القبلة التي توجه اليها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل التحول الى مكة بأمر رباني في السنة الثانية من الهجرة بدليل قوله تعالى : (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة:144). واذا ما عرف المرء أن بيت المقدس كانت قبلة المسلمين منذ أن فرض الله الصلاة على المسلمين عام 610م وحتى 623م، أي السنة الثانية للهجرة فيكون مجموع سنوات توجه المسلمين في صلواتهم الى بيت المقدس ثلاثة عشر عاماً.
فضائل بيت المقدس
واستناداً الى هذه الأصول العقيدية والمرتكزات الروحية لمكانة القدس في العقيدة الاسلامية ترتبت فضائل كثيرة لبيت المقدس. فما هي يا ترى تلك الفضائل؟
يمكن تلخيص تلك الفضائل بالاستناد الى الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة بالآتي:
فضل الاقامة والسكن في بيت المقدس وزيارتها
وهو ما دعا اليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة منها ما روي عن ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "نعم المسكن بيت المقدس" وحديث رواه مكحول: "من زار بيت المقدس شوقاً اليه دخل الجنة". زد على ذلك أن المسلمين سيهاجرون في نهاية الزمان الى بيت المقدس. ففي حديث رواه ابن الفقيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستهاجرون هجرة الى مهاجر ابراهيم، أي بيت المقدس". وعن ابن جريح عن عطاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يسوق الله خيار عباده الى بيت المقدس والى الأرض المقدسة، فيسكنهم اياها". وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال الا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، المسجد الأقصى، ومسجدي هذا". حديث صحيح.
الربط بين مكة والمدينة وبيت المقدس
المسجد الأقصى: هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى". ومعنى هذا الحديث أنه لا يسافر أحد لمسجد للصلاة فيه إلا لهذه المساجد الثلاثة لا أنه لا يسافر أصلاً إلا لها، وقد بني المسجد الأقصى بعد المسجد الحرام بأربعين سنة كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون سنة، وأينما أدركت الصلاة فصل فهو مسجد". وللمسجد الأقصى مكانته الجليلة في الإسلام فهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. روى الطبري في تاريخه عن قتادة قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وبعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا.
فضل الاهلال بالحج والعمرة من بيت المقدس
ومن الأحاديث في هذا الخصوص ما روته أم مسلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فيه: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى الى المسجد الحرام غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة".
فضل الصلاة في بيت المقدس
يمكن القول بأن فضل الصلاة في المسجد الأقصى تتراوح استناداً الى الأحاديث النبوية الشريفة ما بين ألف صلاة الى خمسين ألف صلاة. كما أن الصلاة في بيت المقدس تطهر الانسان من الذنوب فيخرج الانسان كما ولدته أمه : ففي هذا الخصوص روي عن مكحول حديث جاء فيه: "ان من صلى في بيت المقدس … خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وعن قتادة عن أنس: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ومن صلى ببيت المقدس خمس صلوات نافلة كل صلاة أربع ركعات يقرأ في الخمس صلوات عشرة آلاف مرة "قل هو الله أحد" فقد اشترى نفسه من الله تبارك وتعالى ليس للنار عليه سلطان".