Uploaded with ImageShack.us
ولد ناجي سليم حسين العلي عام 1936 في قرية الشجرة شمال فلسطين،
وبعد نكبة 1948 دُمرت قريته تماماً، وهجّر مع عائلته الى جنوب لبنان،
أقاموا في خيمة ثم انتقلوا الى مخيم عين الحلوة بجوار صيدا،
عاش حياة المخيمات المريرة مع إخوته، وسافر الى طرابلس ليدرس فيها وينال الشهادة في الميكانيك،
مما منحه فرصة العمل في الورشات الصناعية. بعد إقامة لمدة سنتين في السعودية
عاد عام 1957 الى لبنان وقد بدأ يتفتح وعيه، وتتحدد خياراته السياسية،
وبسبب المد القومي في تلك الحقبة وجد نفسه ينتمي الى حركة القوميين العرب،
حياة التهجير والتشرد وذل المخيمات ستترك بصماتها التي لن تُنسى على حياته وفنه.
درس لمدة ستة أشهر في الأكاديمية اللبنانية، وتركها بسبب حاجته للعمل، وانشغاله بالعمل السياسي،
مقرراً أنه "سيكرس نفسه للفن التشكيلي .. بعد تحرير فلسطين!!! ..
درس فيما بعد في الكلية الجعفرية ثلاث سنوات في صيدا، غير أنه كان دائم التردد على السجون بحكم نشاطه السياسي.
لقاء عابر في أول الستينيات مع الكاتب غسان كنفاني غيّر مجرى حياته.
فلقد أطلعه على عدد من رسومه. فلمس كنفاني موهبته وحماسته فنشر له رسماً في مجلة "الحرية"
يمثل خيمة على شكل بركان، ستشكل له تلك اللحظة النقلة الأهم في حياته وتعاطيه مع قصة الرسم.
بعد عامين من ذاك الحادث يسافر الى الكويت ويعمل في مجلة "الطليعة" رساماً ومخرجاً وكاتباً،
كان ذلك بداية عمله كرسام محترف، راح ينشر رسومه بتواتر متزايد الى أن انتقل عام
1968 الى جريدة "السياسة" الكويتية، وبقي فيها رسام كاريكاتير حتى عام
1975 عندما عرض عليه العمل في جريدة "السفير" اللبنانية في وقت كان الانقسام السياسي في لبنان قد بلغ مبلغه،
وراحت رهانات القوى اللبنانية تفرز بحد السكين القوى السياسية والاجتماعية،
وتترك ظلالها القوية على كل وسائل الإعلام، في هذه التربة يجد ناجي منبره المثالي حيث لا حسابات وسطية،
فالعالم السياسي حوله مقسوم الى أبيض وأسود.
عام 1977 أصبح يعمل لصحيفة "السياسة" الكويتية إضافة الى "السفير" حتى عام 1982
في هذه الحقبة كانت رسومه تمس كل الأطراف، من الأعداء المعلنين: إسرائيل وأمريكا،
الى قائمة دول الاستبداد العربية الى كل أعداء العرب وفلسطين، فرسم عن الديموقراطية، والبترول،
والمخيمات، والفقر، والمعتقلين السياسيين، والخلافات العربية، والخلافات الفلسطينية، والتنازلات المعلنة والمضمرة،
وكانت في كل ذلك نجمة الصبح لها إسم واحد: فلسطين.
بعد أن مرّر فترة الاجتياح الإسرائيلي لبيروت وهو ينتقل في ظل الخطر الدائم بين بيروت وصيدا حيث تسكن عائلته.
بين عامي 1982 و 1985 يغادر الى الكويت ويعمل مع صحيفة "القبس" حيث ينشر فيها مجموعة من أقسى الرسوم النقدية
عن القيادات الفلسطينية الأمر الذي أجبره مجدداً على مغادرة الكويت بسبب الضغوط الفلسطينية الى لندن
ليعمل في "القبس الدولي" خلال ذلك بقي وفياً بصرامة نادرة لخطه السياسي النقدي الذي لا يقبل المساومة ولا المناورة.
ظلّ يهاجم كل من يبتعد خطوة عن فلسطين الوطن والمعاناة والحلم، من الأنظمة العربية الى القوى الفلسطينية نفسها.
بين عام 1985 و1987 لم تعد خارطة فلسطين السياسية هي نفسها خارطة الخمسينيات والستينيات،
ولم تعد خارطة لبنان الحرب الأهلية هي نفسها. تغيّر العالم، انتصر أعداء فلسطين، أبعدت منظمة التحرير الى تونس،
انتصرت الأنظمة على المجتمعات. هُزمت القوى والأفكار التي سادت جيل ناجي، غير أنه هو نفسه لم يهزم،
بقي يقاوم متمترساً خلف النقاء السياسي السابق نفسه. وهذا وسّع خارطة خصومه،
فالأعداء بالنسبة له هم أيضاً أولئك الذين يعيدون الحسابات أو يميلون الى المساومات من أهل البيت الفلسطيني ..
هكذا وجد نفسه في السنوات العشر الأخيرة من حياته يتناول بالنقد المفرطين وأصحاب الكروش
والموسومين بأرقام القرارات الدولية (242-238) حول فلسطين وتقاسمها.
والحقيقة أنه في ذلك كان متجاوباً مع الإحساس العربي العام بالظلم والغضب لما آلت إليه القضية الفلسطينية،
بل إن تراكم الهزائم رفع – أكثر من السابق – إرادة التحدي والمقاومة.
رسوم ناجي أضحت مليئة بكشف تنازلات القادة الفلسطينيين، بل أصبحوا موضوع رسومه الأساسي ومحط استنفار موهبته الى
أن جاءته رصاصة لندن في 22 يوليو 1987 ليدخل بعدها في غيبوبة طويلة الى أن فارق الحياة في 29 أغسطس من العام نفسه.
التقشف بانضباط
قبل أن أعرّج على عناصر القوة في عمل ناجي وتأثيره الكبير، لا بد من ترسيم مختصر للجانب الفني لديه:
تعتمد رسوم ناجي على خط محيط بسيط. يرسم الشخصيات دون تفاصيل، ولكن دون اختصارات شديدة،
كما أن الحركة لديه لا تتسم بديناميكية عالية. لكنها تبتعد أيضاً عن الجمود، خطه سلكي عريض، يعتمد عليه وحده أحياناً ،
وأخرى على الخط والمساحة السوداء، وثالثة على الخط والظلال الرمادية للحبر الصيني المخفف،
ورابعة على الخط مع التهشيرات المتصالبة الخشنة، وكان هذا ما اعتمده خاصة في سنواته الأخيرة.
يهتم بإيصال الفكرة بأبسط الطرق وأسهلها، ولا يلقي بالاً لأي مهارة أو استعراض تقني أو تميّز أسلوبي.
رسومه متقشفة بالضبط، فلا هو تقشف زائد فيُفقر الرسم وتضل الفكرة عن الوصول، ولا هو استعراضي فيوقع الرسم في التكلف.
في رسمه ما تحتاج إليه الفكرة لتصل، لا أكثر ولا أقل، وليس مصادفة أننا نجد أكثر رسومه دون خلفيات تحدد المكان.
ففي عقيدته أن ذلك ليس ضرورة ، ما دام الأشخاص في مقدمة الرسم يكفون لقول الفكرة.
ورغم أن ناجي من الناحية الفنية البحتة رسام متوسط الإمكانات غير أنه رسام دءوب، يعمل بجلد دائم،
أوصله ذلك الى شخصياته المعروفة، والتي صارت متميزة موسومة بطابعه كيفما رسمها وبأي تقنية،
ودأبه ذاك أوصله الى ألفة غير عادية مع شخصياته – وبالتالي – لألفة القارئ معها. شخصيات من الشارع والمخيم والبيت.
لكنها فوق ذلك وقبله مرسومة ببساطة وتعاطف وحب عبر الآلاف من رسومه (يقال إنه رسم 40 ألف رسم،
واعتقد أن الرقم الأقرب للصحة هو بحدود 15 ألف رسم بمعدل رسمين يومياً على مدى عشرين عاماً).
قضية إجماع
كيف تسنى لعمل ناجي أن يكون له تأثير فريد في الصحافة العربية وفي القارئ العربي
وهو عمل لا نجد فيه قوة الحركة كما عند الأمريكي ماك تيللي ولا متانة الخط كما لدى الإنجليزي لو،
ولا الوجوه البديعة كما عند الأمريكي دافيد ليفين أو جورج البهجوري أو سمير كحالة،
ولا عنف التعبير كما عند جورج سكارف، ولا المعرفة بالبيئة المحلية كما لدى الزواوي.
ولا جمال الخطوط وحدتها كما لدى صلاح الليثي وتورهان سلجوك ومؤيد نعمة،
ولا الغرف من الفنون المحلية أو الشعبية كما لدى الإيراني محسس أو المصري اللباد؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة الى أن الكاريكاتير على خلاف كل الفنون التشكيلية
هو فن الفكرة قبل أي شيء آخر، يتراجع فيه مقياس الرسم والمهارة الى الدرجة الثانية،
ومن هنا نجد الكثير من الرسامين الذين حظوا بحضور كبير وأحياناً طاغ في بلدانهم
رغم أنهم لم يكونوا رسامين كبارا أمثال الفرنسي سينه والروماني ستافسكو، والمكسيكي ديوس ..الخ،
على الرغم من أن الحالة الأخرى حيث يوجد رسام كبير حاملاً أفكاراً مبدعة هي الحالة الأجمل والأشد إمتاعاً.
بالعودة الى عناصر التجربة لدى ناجي، عناصر القوة في عمله التي مكنته من تحقيق ما لم يحققه العشرات
من الرسامين العرب على مدى ربع قرن، لا بد من الإشارة أولاً الى أنه يعمل على قضية إجماع، قضية شكلت على مدى قرن كامل
موضع ليس لها نظير في التاريخ العربي الحديث. فحجم الظلم والألم الذي عاناه الشعب الفلسطيني جعل منه رمز الظلم،
ومن ثم أصبحت فلسطين بحكم الترابط بينها وبين محيطها العربي مفتاحاً، لا لتحرير الأرض وعودة الفلسطينيين لوطنهم فقط،
بل مفتاحاً أيضاً لتقدم مجتمعاتنا أو تأخرها، بحيث أصبح الانتصار فيها علامة للانتصار في المعارك الأخرى كلها:
التقدم، الديموقراطية، الكفاية ، العمل، التسلح ..الخ.
وهكذا أصبحت رسوم ناجي وكأنها تحكي عن الوجع الأقصى لدى العرب اليوم، أصبحت تمثل درب الآلام للقضية الفلسطينية
وعناصر المقاومة فيها .. أصبحت تمثل جزءاً معلناً من ضميرها. وهذا يمكن ملاحظته في حقول إبداعية أخرى كالشعر والرواية،
بحيث أصبح بعض الشعراء والكتاب يمثلون ليس فقط أدباً كبيراً بل ضميراً للقضية نفسها.
ومن ناقل القول إن القضية وحدها لم تكن لتستطيع أن تفعل هذا السحر مع رسوم قليلة الموهبة،
فموهبة ناجي لا يرقى إليها الشك، وإلا لكان كل الرسامين الذين تناولوها – وما أكثرهم – في موقعه نفسه !! وهو ما ليس حاصلاً بالطبع.
القادم من المخيم
والنقطة الثانية التي صنعت أهمية الرجل وقوة رسومه هي كونه أحدث نقلة في الشخصيات التي يتناولها الكاريكاتير.
فأبطال الكاريكاتير – عادة – هم الشخصيات السياسية العامة: رؤساء وزراء وملوك ووزراء ..الخ،
ناجي لم يفعل هذا، شخصياته من أبناء الشعب العاديين، ابناء المخيم، رجاله ونساؤه وأطفاله .. زينب ومحمد وفاطمة و حنظلة ..
هكذا أصبح القارئ لا يطالع في رسومه المواقف الرسمية من الأحداث والردود عليها وكشفها،
بل يطالع ما يقوله رجل الشارع عبر الحياة السياسية، أصبح القارئ بمعنىآخر يطالع في رسوم ناجي، وجهة نظره هو،
درجة التماهي بين القارئ وشخصيات ناجي لافتة. أعانه على إقامة تلك الصلة العميقة كون ناجي نفسه لم يأت الى الصحافة
من الوسط الثقافي أو السياسي بل من قعر المخيم.
لا بد من الإشارة في هذا السياق الى شخصيته الأثيرة، الى تميمته، حنظلة، فشخصية ابن المخيم ذي السنوات العشر،
ظلت تزين زوايا رسومه على مدى أكثر من عشرين عاماً، دائراً ظهره للقارئ، وكأنه يطالع الأحداث ويعلن احتجاجه عليها،
هو عادة شخصية سلبية، صامتة، شاهد رافض، لكنه في لحظات نادرة يتحول الى شخص فاعل،
يعلق على الأحداث أو يتناول حجراً أو يرميه..الخ. ربما يعود إصرار ناجي عليه الى كونه يمثله شخصياً – ولا أقصد أفكاره –
يمثله في طفولته لحظة اقتلاعه من وطنه عندما كان في مثل عمر حنظلة.
العديد من الرسامين مثل ناجي استخدموا عناصر أو شخصيات متكررة في رسومهم مثل الشمس لدى الرسام لوري
والأشخاص القزمة لدى الأسترالي – الأمريكي أوليفنت ..الخ، لكن حنظلة لم يكن لدى ناجي توقيعاً
أو تعليقاً إضافياً على الرسم أو على التعليق الأساسي.
كان بالأصح احتجاجاً، لحظة نقاء سياسي في بحر الأحداث والمساومات المستمرة،
كأنه بإدارة ظهره يشارك القارئ موقعه في النظر الى الرسم نفسه، وهذه لحظة تماه أخرى بين رسم ناجي وقارئه،
وهذا في جانب يفسر الاهتمام الذي ناله حنظلة من القارئ أو من الذين كتبوا عنه.
الكاريكاتير الحزين
نقطة ثالثة تتعلق بتأثير الكاريكاتير في القارئ، فالكاريكاتير رسم ساخر،
يتناول قضية أو موقفاً أو لحظة عبث لكنه ساخر، اعتاد الرسامون أن يسخروا، أن "يتهضمنوا"، أن يُضحكوا القارئ – إن تمكنوا –
في سياق تناولهم للموضوعات، ناجي ذهب في الاتجاه المعاكس، لم تكن رسومه ساخرة، بل كانت على العكس حزينة،
كانت رسوماً تتحدث عن آلام الناس ومواجعهم، وعندما لم تكن رسومه حزينة فلقد كانت جادة،
تقول آراء ومواقف وتحدد بوصلة للحراك السياسي عبر مفارقات ذكية.
الغناء في أحد وجوهه – غير الحاجة النفسية أو الجمالية له – فرح، غير أن الغناء العراقي – مثلاً – حزين، حزين وآسر،
كم تشبه رسوم ناجي الموال العراقي.
هكذا تجاوبت رسوم ناجي مع تلك الحاجة الداخلية العميقة لإنسان المنطقة مع التعبير الحزين عن حياته المضنية المحاكة بالسواد.
الخوف من اليأس
نقطة رابعة في مسيرة هذا الرجل: شجاعته، فلم تكن لديه حدود لقول كلمة الحق التي آمن بها،
ليرض من يرضى، وليعاده من يعاديه، ففلسطين ليست مكاناً لقول رخو أو متواطئ.
وعليه فتحت رسومه نارها على الأنظمة الديكتاتورية، على رجال المخابرات ، على القيادات المستسلمة،
على الطوائف، على الطائفية، على تضليل الإعلام على تهاون المثقفين، على القمع في كل بلدانه، وأيضاً على الوضع الفلسطيني الداخلي،
على التحزب الضيق، على الصراعات الفلسطينية، على نزعة الهيمنة على القرار، على الميل للمساومة،
على القابلين بالقرارات الخاصة بفلسطين، على المفرطين والباحثين عن أي مقعد في قطار التسوية ..الخ،
وهو في كل ذلك لم يجلب لنفسه إلا أعداءً فوق أعداء.
قال لي في غرفته الصغيرة في جريدة السفير عام 1980 إنه لا يخشى التهديدات، ولا يحسب أي حساب لها،
وإن خشيته الوحيدة هي أن يصل اليأس الى قلبه، والحقيقة أنه لم يصل اليأس أو الخوف الى ذلك القلب الجسور.
بالطبع، لم يكن ناجي يقول نقده الحاد في غرف مغلقة، كان رأيه ينشر على الملأ، ولم يمر الأمر دون ثمن بالطبع.
فلقد كلفت شجاعة ناجي أن يعيش تحت الضغط والتهديد، وأُجبر على مغادرة البلدان التي يعمل فيها أكثر من مرة،
بل أصبح الأمر كابوساً في السنوات الأخيرة عندما أصبحت التهديدات الهاتفية يومية متوعدة إياه بالتصفية،
غير أنه لم يساوم وبقي وفياً لقيمة السياسية والأخلاقية، وأن الناس تنتظره كل صباح وتراهن عليه.
ولا بد من القول إن فترة ازدهار رسوم ناجي وقعت لحسن حظه – إن جاز القول – بين هزيمتين (1967 و 1982) وحرب (1973)
وعبرتها حرب أهلية طاحنة، رافق كل ذلك أعلى ازدهار لفكرة الرفض والمقاومة، وأكبر الهزائم لها أيضاً،
مما يعطي المناخ المفتوح للأهواء القصوى السياسية وهو ما كان يناسب مزاج ناجي الملتهب.
الملك ميدياس
النقطة الخامسة هي قدرته على توليد الأفكار وتنويع موضوعاتها، أي أنه كان يرسم عشرات الموضوعات التي تمس قضيته الأساس فلسطين،
وهكذا كان يرسم عن اللاجئين، عن فقراء الفلسطينيين، عن المخيمات، والمجالس الوطنية، ونقاط الحدود، والجرائم الإسرائيلية،
والوضع النفسي للإسرائيليين، عن استسلام الأنظمة، عن السلاح الأمريكي، عن الكتائب، عن الجامعة العربية، عن الوحدة العربية،
عن الحلول المنفردة، عن تضاريس العلم الأمريكي، عن الانفتاح الاقتصادي، عن التضامن اللبناني – الفلسطيني، عن بيروت، عن التطبع،
عن القمم، عن معتقل أنصار، عن المناضلين المتكرشين ..الخ.
وهذا الاستعراض المختصر لموضوعاته يلقي الضوء على أنه لم يقتصر في تناوله للقضية – كما حال الكثير من الرسامين – على
إدانة إسرائيل وتحالف الولايات المتحدة معها، بل كان يتناول كل انعكاساتها على الوضع العربي، وهو كان معنياً بتحمل مسؤوليته
عن كشف اتجاهات الأحداث.
وباستعراض الآلاف من رسومه يظهر بجلاء الى أي حد كان يعتبر في قرارة نفسه أن دور الكاريكاتير يتصل بنشر وعي بالقضية،
وعي جذري، نقي، مفارق للخط الرسمي العربي – الفلسطيني.
هذا يقودنا الى الحديث عما هو أهم من تعدد موضوعاته ودرجة وعيه لدور الكاريكاتير، يقودنا للحديث عن موهبته،
فقدرته على الابتكار قدرة أخّاذة، وهو لا يتوانى عن استخدام كل ما يحيط به من إشارات جرافيكية لقول جديد وجميل وعميق
من أشكال القذائف الى لغة نشرات الأخبار، الى لافتات المظاهرات، الى إشارات المرور، الى براميل النفط ، الى حافلات المواصلات،
الى الصليب، الى الزهرة، الى البحر والشواطئ، الى القبر واليد المرفوعة مقاومة.
وهكذا نحس أن موهبة هذا الرسام جعلته مثل الملك ميدياس، يلمس أي موضوع أو أي شكل جرافيكي فيحوله ذهباً،
فكرة كاريكاتيرية جميلة عميقة، فضّاحة، بذكاء وسهولة وكأنه يشرب كأس ميرمية في مخيم عين الحلوة.
مَنْ القاتل؟!
هذه هي الجوانب الأساسية التي صنعت - باعتقادي - أهمية الرجل، وهي نقاط لا تتوافر لأي رسام بالطبع،
وهي تقودنا الى الحديث عن الفصل الأخير من حياة ناجي العلي : قتله.
المعروف أن القتل حدث في أحد شوارع لندن، وردت ثلاثة أسماء في القضية التي حققت فيها أجهزة الأمن البريطانية:
بشارة سمارة، إسماعيل صوان، عبد الرحيم مصطفى.
الأول كان على علم على ما يبدو بالاغتيال، وثم تسلميه فيما بعد الى إسرائيل، الثاني عميل للمؤساد
تم تسريبه الى القوة 17 الفلسطينية. تم الحكم عليه بـ 11 عاماً لحيازته أسلحة، وليس متهماً بالاغتيال أو المساعدة فيه.
الثالث يُعتقد أنه هو مطلق النار على ناجي، عضو في القوة 17، اختفى إثر الحادث،
ويقال أنه غادر بريطانيا والتجأ الى أحد مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية ثم اختفت آثاره، فلا يعرف له مكان،
ولم يشرح لأي وسيلة إعلامية ملابسات الموضوع دافعاً التهمة عن نفسه، كما لم يصدر عن منظمة التحرير أي بيان أو إشارة حوله.
يتبين وكأن هناك رغبة غير معلنة من الجهات الرسمية البريطانية والفلسطينية والإسرائيلية بالتكتم على الموضوع وتركه يموت بالنسيان.
فمن الجهة التي تقف وراء القاتل؟
في مثل هذه التشابكات البوليسية المعقدة، سبق أن أشرت في مقال - لم يُنشر إلا مجزوءاً عام 1997 - الى أنه في الجرائم السياسية
من الخطأ تضييع الجهد في الملابسات البوليسية ، بل يجب تركيز الانتباه الى السؤال الذهبي في هكذا حال: من المستفيد من عملية القتل؟
بالعودة الى أعمال ناجي، نرى بوضوح أنه مسّ الكثيرين في رسومه من الدول الى الأحزاب، الى الهيئات السياسية،
الى العديد من الشخصيات السياسية، وكم يبدو الشاعر محمود درويش محقاً
عندما يتساءل في مقدمته لكتاب ناجي الأول (دار السفير – 1997): "مَنْ دلّه على هذا العدد الكبير من الأعداء الذين ينهمرون
من كل الجهات، ومن كل الأيام ، ومن تحت الجلد أحياناً؟".
فهذا الرسام لم يكن في دفاعه عن قضيته يحسب أي حساب لأي جهة، ولأي قوة، ولم يكن ليرى التكتيكات والمناورات السياسية
إلا تنازلات وتفريطاً، فهو ظل يحلم بالقضية في نصاعتها كما كانت عام 1948، وفي نقاء الحق الفلسطيني الذي لا ينازع.
هكذا راح في الأعوام الأخيرة من السبعينيات ويشكل خاص بعد الخروج من بيروت الى تونس وإجبار منظمة التحرير الفلسطينية
على تقديم التنازل تلو التنازل، والاعتراف بالقرارات العربية والدولية تلو الاعتراف،
لم ير في ذلك مساراً إجبارياً فرضته ظروف الهزيمة العربية والفلسطينية، بعد اجتياح بيروت، بل رآة تفريطاً،
سببه طبيعة توجهات القيادة ومصالحها وتحالفاتها، وعليه صبّ ناجي على القيادات الفلسطينية غضب رسومه.
رسم وقتذاك القادة الفلسطينيين مكرشين، تحولت الكوفية لديهم الى قبعة أمريكية أو الى ربطات عنق أنيقة،
مترهّلة مؤخراتهم الى الأرض دون أطراف سفلى، مطبوع على جسومهم أرقام القرارات الدولية المعترفة بالعدو "وحقه" في أرض فلسطين،
أصبحت كل سياسات وتصريحات وإجراءات القيادة الفلسطينية تحت مجهر ناجي الكاريكاتيري في إدانة لا تقبل التأويل.
كانت المنظمة - وفتح حصراً - في وضع صعب للغاية، فمن الخروج من بيروت الى الخروج من طرابلس الى حرب المخيمات،
في ظل انشقاقات فلسطينية (أبو موسى) وخلط للأوراق وإعادة فرز سياسي وتنظيمي،
واستمرار النهج نفسه في الإدارة وترتيب الوضع الداخلي المنخور بالضعف والفساد، كل هذا جعل الكثيرين يضيقون ذرعاً من رسوم ناجي
ونقده. في هذا الوضع راحت أكثر من جهة توصل الرسائل إليه بأن يخفف من نقده، فلم يستجب بالطبع،
عندها ازدادت الضغوط المباشرة مما أجبر صحيفته على الطلب منه أن يغادر الكويت الى لندن ومن هناك استمرت رسومه تتسم بنقدها الحاد
. فأخذت تتوالى عليه الاتصالات المهددة اليومية، ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير عندما نشر رسماً
(القبس 24/6/1987) يشير فيه الى إحدى الباحثات بالاسم وتأثيرها في اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين،
والباحثة معروفة أنها مقربة من إحدى الشخصيات السياسية الفلسطينية، وقيل وقتها إنه تلقى اتصالات تطالبه
بضرورة الاعتذار عن الرسم في الجريدة نفسها تحت تهديد التصفية الجسدية، وهو أمر لم يكن ليخطر على بال شخص صعب مثل ناجي،
فلم يعبأ بالتهديد كعادته، وبقي يعمل بنفس إيقاعه السابق دون أي احتياطات أمنية الى أن جاءته الرصاصة في وجهه
صبيحة 22 يوليو 1987 وليبقى في الغيبوبة لمدة 38 يوماً، وكأن جسده بدوره كان يقاوم بعد أن قاومت ريشته ربع قرن.
ما زال الجرح مفتوحاً
ما زالت الأسئلة مفتوحة، وما زال جرح ناجي مفتوحاً بدوره في صدر محبيه وعشاق فنه ومتابعي رؤيته
إضافة الى زملائه الرسامين الى أن ... الى أن ماذا؟
فليس هناك أرشيف فلسطيني (أو عربي) يُفتح بعد عشرين عاماً – مثلاً – مثل العديد من دول العالم الحديثة،
لتتضح لنا الصورة الدقيقة لما حدث.
سلام لروحك يا ناجي، سلام لشجاعتك التي لم تبرزها إلا موهبتك.
نم قرير العين ... أحوالنا سوداء، لكن رسالتك وصلت.