قال عنه الصهاينة انه من أخطر العملاء الذين خدموا تحت مظلة الموساد على الجبهة المصرية في عقد الستينيات، ذلك العقد الذي شهد أوج الصراع الاستخباراتي بين القاهرة وتل أبيب، ورغم خطورته المزعومة تلك، لم يسمع عنه كثيرون، ولم تسلط عليه الأضواء مثلما حدث مع عملاء آخرين مثل إيلي كوهين الذي خدم في الجبهة السورية، وتحدث هو عن نفسه في كتاب حقق مبيعات متواضعة للغاية وأسماه«جاسوس الشمبانيا»، دون أن يوضح على وجه التحديد العلاقة بين الاسم والمسمى! في عام 1978، أجري معه حوار في مدينة ميونيخ الألمانية، وكاد يبكي هماً من الفقر المدقع الذي يعيش فيه بعد أن أهمله الإسرائيليون إهمالا أشعره بأنه«كلب عجوز فقد حاسة الشم»، إنه الألماني اليهودي «ولفجانج لوتس»، فمن هو وماذا فعل في مصر؟
ولد ولفجانج لوتس في مدينة مانهايم الألمانية عام 1921، كان والده مخرجا مسرحيا، والأم ممثلة، لم يكن هناك أي إشارات تدل على أن الأبوين من أصل يهودي، بل وأكد بعض المقربين منهما أنهما لم ينتميا إلى أي ديانة من الأصل، ولعل هذا هو سبب عدم اهتمام الأبوين بإجراء عملية الختان للابن، ومسألة عدم الختان تلك كانت أولى المزايا التي رشحت ولفجانج للعمل في صفوف الاستخبارات الصهيونية فيما بعد وعلى نحو ما سنرى لاحقا.
إلى فلسطين
انفصل الزوجان عام 1931، وارتحلت الأم ومعها ابنها في سن العاشرة إلى فلسطين عام 1931 في أعقاب اعتلاء هتلر منصة الحكم في ألمانيا، وفي تل أبيب، لم تجدالأم وسيلة للعيش سوى أن تمارس مهنتها كممثلة مسرحية، في حين التحق الابن بمدرسة « بين شين» الزراعية، ويبدو أن استقرار الابن مع أمه في فلسطين قد شجعه على تغيير اسمه. فصار «زئيف جو أريحا» بعد أن كان ولفجانج لوتس، وبعد فترة من الوقت، صار زئيف«مدربا للخيول وخبيرا في شؤون الفروسية»، وحين بلغ سن الخامسة عشرة، انضم إلى عصابات «الهاجانا»، وفوضت إليه العديد من المهام كان من بينها حماية الحافلة المدرعة وسيلة المواصلات الوحيدة التي تقل أبناء اليهود إلى المدرسة الزراعية «بين شين»، كما انضم إلى فرق الخيالة التي تدور في نوبات الحراسة المستمرة حول أسوار المدرسة ذاتها حماية لها من أي أعمال مقاومة من جانب الفلسطينيين.
واندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، ولتمكنه من اللغتين الإنجليزية والألمانية، إلى جانب إجادته للعبرية والعربية، كان«زئيف» صيدا ثميناً استطاعت القوات البريطانية الإيقاع به في شباكها من جملة العناصر الصهيونية المتطرفة الأخرى التي خدمت في صفوف البريطانيين إبان الحرب، وبعد انضمامه إلى القوات الإنجليزية، أرسل زئيف إلى مصر، كانت المهمة الأساسية التي أوكلت إليه هي استجواب الأسرى الألمان الذين وقعوا في أيدي القوات البريطانية.
وبعد أن عاد إلى فلسطين، انخرط على الفور في أنشطة تهريب الأسلحة لعصابات الهاجانا، وعقب إعلان قيام الدولة الصهيونية في مايو 1948، خدم زئيف في قوات الدفاع الإسرائيلية برتبة ملازم أول، وشارك في العديد من العمليات العسكرية التي شنها الصهاينة بعد إعلان دولتهم، ومن بينها عمليات الاشتباك مع العرب في منطقة لاترون، وظل يخدم في صفوف الجيش الإسرائيلي حتى ترقى لرتبة«لواء»، وقاد كتيبة مشاة كان لها دور ضمن القوات الصهيونية التي شاركت في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
النازي السابق
بعد انتهاء أزمة السويس بفترة قصيرة، بدأت الاستخبارات الصهيونية (الموساد)الاتصال بزئيف وبحثت معه إمكانية انضمامه إليها، خاصة وأن ملامح وجهه لاتدل على أنه صهيوني ،فعلى حد تذكره :«كنت أشقر اللون، قصيراً وممتلئاً، وملامحي تدل على أنني ضابط سابق في الجيش الألماني»، كان صاحب عينين زرقاوين، وبلكنته الألمانية، كان باستطاعته ارتداء قناع زائف ينم عن مواطن ألماني مائة في المائة، علاوة على ذلك، ورث زئيف عن أمه مهارة التمثيل، وبما أنه غير مختون، بات من السهل تجنيده وإرساله إلى مصر كمواطن ألماني دون الشك في يهوديته.
لدى بلوغه سن الخامسة والثلاثين، رأى زئيف أن عمله في الجيش لا يوفر له مستقبلا آمنا، ومع علمه بصعوبة تدريبات الموساد وما تحمله من مشاق ومتاعب جسدية ونفسية، قبل عرض الموساد بروح متفائلة مندفعة.
وبدأ العمل، كان المطلوب منه في البداية هو إقناع الجهات التي سينقل نشاطه إليها بأنه«ضابط نازي سابق»، مع إزالة أي شكوك قد تحوم حوله على أنه «يهودي»، ولعمل الغطاء الذي سيتستر من ورائه في أنشطته التجسسية، أرسل زئيف إلى ألمانيا الغربية، وهناك، من المفترض أن يتحرك ولفجانج تحت قناع«رجل أعمال ألماني خدم في جيش هتلر في دول شمال أفريقيا، فضلا عن أحد عشر عاما قضاها في أستراليا يربي خيول السباق»، مقدمة لابد منها قبل الانتقال إلى مصر، والتي سيقوم فيها باختراق الجالية الألمانية التي تعيش وتعمل في مصر.
الألمان في مصر
خاض زئيف دورات تدريبية مكثفة ومجهدة استمرت عدة أشهر، فضلا عن دورات في التاريخ والسياسة والثقافة المصرية، وفي مطلع عام 1957، صدر القرار بإرسال زئيف إلى مصر لتجميع معلومات عن الأسلحة الروسية التي حصلت عليها الحكومة المصرية في عهد جمال عبد الناصر، لكن السبب الآخر لهذه الزيارة، وربما الأهم، هو زرع عميل على مستوى عال في مصر ليقوم بنشاط تجسسي دائم، وقد جاء هذا القرارفي أعقاب التقارير المستمرة التي تتناول التأثير المتزايد للمستشارين الألمان الذين دعاهم عبد الناصر لزيارة مصر، وتدعي بعض التقارير أن غالبية هؤلاء المستشارين كانوا من النازيين السابقين، وقيل إن عبد الناصر رغب في دعوة العلماء والمهندسين والأطباء وخبراء الأمن من ألمانيا إلى مصر ليشغلوا مواقع حساسة تسمح لهم بالمشاركة في وضع خطط ومشاريع التنمية والتصنيع التي كان يحلم بتحقيقها، أكثر من ذلك أن الموساد كان يترقب بقلق وتوتر بالغين اشتراك العلماء الألمان في صناعة الصاروخ المصري، كان يريد معرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات الدقيقة، وعلى زئيف أن يوفر تلك المعلومات!
إلى مصر
وفي نوفمبر 1959، سافر زئيف إلى ألمانيا، وقضى عاما كاملا في التنقل بين المدن الألمانية كنوع من التمويه والإفلات من أي أعين قد تتربص به، وأخيرا،انتقل إلى مصر، البعض يقول في ديسمبر 1960 وآخرون يزعمون في يناير 1961، وما إن وطأت قدماه مصر، بدأ في الاتصال بالشخصيات الألمانية، ذهب إلى نوادي الفروسية، وسرعان ما اكتشف أن شخصية عسكرية مصرية مرموقة (....)، تتردد على أحد هذه النوادي، كثف زئيف زياراته إلى هذا النادي (....)، وسرعان ما تعرف على هذه الشخصية العسكرية، قدم نفسه على أنه من عشاق رياضة الخيل، ومربي محترف لسلالات خيول السباق، ولم يمض وقت طويل إلا وقد تطور التعارف وصارصداقة حميمة.
بعد فترة، ذاع صيت رجل الأعمال الألماني الثري الذي وفد إلى مصر مؤخرا ويتردد على نوادي الفروسية، في الوقت نفسه، قدم زئيف نفسه لأبناء جاليته الألمانية، وبدأ يتلقى دعوات إلى حفلات تجتمع فيها الشخصيات البارزة من المصريين والألمان، أما الشخصية العسكرية المرموقة، فصارت تقابل زئيف يوميا ليمارسا معا رياضةركوب الخيل.
وبعد ستة أشهر، عاد«زئيف» إلى أوربا لإبلاغ الصهاينة بنتائج زيارته إلى مصر، بدأت بعد ذلك ترتيبات العودة إلى مصر مجددا ومعه مبلغ كبير من المال وجهاز إرسال يتصل من خلاله سرا برؤسائه في تل أبيب، عاد إلى القاهرة وقد نال لقب« عين تل أبيب في القاهرة»، وصار جنبا إلى جنب العميل الصهيوني إيلي كوهين ( رجل الموساد في دمشق) محط اهتمام كل العاملين في جهاز الموساد.
لكن قبل عودته إلى القاهرة، وقع حادث في غاية الغرابة بالنسبة لجاسوس يعمل في نفس موقف وظروف زئيف.
كان زئيف قد تزوج في إسرائيل، إلا أن تجربة زواجه لم يكتب لها النجاح، وأصيبت بحالة«جمود» بينه وبين زوجته دون أن ينفصل عنها، وظل زئيف على هذا الحال دون أن يرتبط بأي امرأة أخرى، لكن لدى عودته من باريس إلى القاهرة في يونيو عام 1961، قابل زئيف امرأة قال عنها«آية من الجمال»، كان اسمها فالتراود مارثا نيومان، لاجئة من ألمانيا الشرقية تعيش في أمريكا، وكانت في طريقها من باريس إلى ألمانيا لزيارة أبويها.
تصرف غريب
بعد أسبوعين فقط من تعارفهما، تزوج زئيف على فالتراود، تصرف غريب ومتهور من شخص يعمل في مجال الجاسوسية ومدرب على كافة وسائل الحيطة والحذر، لم يرجع زئيف إلى رؤسائه في تل أبيب قبل أن يتخذ قرار الزواج، بل وسارع بأخذ عروسه معه إلى القاهرة، الأمر الذي سيتطور على نحو يجعل فالتراود تساومه بعد أن يفصح لها عن طبيعة عمله في القاهرة.
ازداد الموقف تعقدا وسوءا عندما أخبر زئيف امرأته أنه يعمل كجاسوس لصالح إسرائيل في مصر، ونظرا لشدة حاجة الموساد إلى وجود عميل له في مصر، اضطرالإسرائيليون إلى الموافقة على الاستمرار في التعامل مع زئيف رغم فداحة الفخ الذي أوقع فيه نفسه.
ويقول بعض الباحثين في سيرة ولفجانج لوتس ان هناك تقارير غير مؤكدة تفيد بأن فالتراود كانت جزءاً من الغطاء الذي مارس من خلاله زئيف دوره في مصر، وأن الاستخبارات الألمانية الغربية هي التي دفعت بتلك المرأة في طريقه كجزء من خطط التعاون المشتركة بين الاستخبارات الألمانية الغربية والإسرائيلية.
وأياً كان وجه الحقيقة، ارتبط زئيف بفالتراود، وهي بدورها لم تتردد في الزواج منه، بل والاشتراك معه في أعمال التجسس فور أن أفصح لها عن هويته الحقيقية!
وعاد زئيف إلى مصر في صيف 1961، وتلته فالتراود بعد أسابيع قليلة، وكان في استقبال زئيف بالمطار الشخصية الأمنية المرموقة، حيث اتفق الاثنان على إقامة حفل صغير احتفالاً بعودته إلى مصر، وفي الحفل، انفرد زئيف بنفسه وقام بإرسال أول رسالة أثيرية إلى تل أبيب عبر الجهاز اللاسلكي الذي كان يخفيه في مكان ما من منزله.
مع الرجل الثاني
كان زئيف ينفق الأموال بلا حساب، ينفقها على شراء الهدايا وإقامة الحفلات الصاخبة لأصدقائه من أبناء الجالية الألمانية في مصر، هذا إلى جانب الإنفاق على تربية الخيول التي تعطيه المبرر المنطقي الوحيد لبقائه في مصر وتردده على نوادي علية القوم، وجنبا إلى جنب زوجته التي رافقته في كل زياراته وتحركاته، تشعبت علاقات الاثنين بكبار الشخصيات الألمانية التي تعمل كخبراء في الحكومة المصرية، بل وصلت تلك العلاقات إلى حد التعرف على اثنين من أهم الشخصيات العسكرية المصرية، وكلاهما يشغلان مراكز حساسة في الاستخبارات العسكرية المصرية، كان أحد هاتين الشخصيتين (.......) مسؤولا عن قواعد الصواريخ والمصانع العسكرية، وبالتالي كان«مسؤولا عن حماية كافة الإنشاءات العسكرية التي يسعى زئيف إلى رصدها وكشفها للموساد في تل أبيب»، وتقول بعض التقارير ان زئيف كان على علاقة بالرجل الثاني (.....) في الحكومة المصرية، وكان له دور«غير مقصود» في تعريف العميل الإسرائيلي بقرارات رسمية في غاية الخطورة قبل أن تصل حتى إلى كبار المسؤولين في الحكومة المصرية.
وترسخت العلاقات بين زئيف وأبناء الجالية الألمانية في مصر، حتى أنه صارصديقا أثيرا ومقربا لعدد كبير منهم. وأثمرت علاقات زئيف مع كبار الشخصيات العسكرية المصرية والخبراء الألمان في التعرف على معلومات مثلت للإسرائيليين قيمة لا حد لها، وكان من بينها القواعد العسكرية السرية بالقرب من قناة السويس، بل ووصلت إليه معلومات عن المطارات التي تخزن فيها طائرات الميج التي كانت تستوردها مصر من روسيا، وأيضا معلومات عن الطيارين ومراكز الاتصالات وحظائر الطائرات.
في نفس التوقيت، حاول الإسرائيليون الحصول على معلومات عن قاعدة الصواريخ الروسية« سام»( صواريخ أرض جو) التي كان يبنيها المهندسون العسكريون المصريون بالقرب من قناة السويس، وتحديدا في مدينة الإسماعيلية، كانت مهمة مستحيلة على عميل متواضع إلى حد ما مثل زئيف، لكنه غامر واندفع وحاول الاقتراب من تلك المنطقة، فوقع في أيدي رجال الأمن المصريين، وتظاهر بأنه لا يعرف طبيعة المكان الموجود فيه، وبعد اتصالات عديدة مع معارفه من الألمان والمصريين، أطلق سراحه ولكن بعد أن قرر المصريون «توظيفه» بشكل ما في صراعهم ضد الإسرائيليين.
الطعم
فقد تعمد المصريون أن يتحدثوا أمامه عن خطة الخلط بين الطائرات الحقيقية والمزيفة في المطارات العسكرية المصرية، بهدف نقل تلك المعلومة إلى القوات الجوية الإسرائيلية الأمر الذي يسبب لها إرباكا في أي خطط محتملة لضرب المطارات المصرية، بلع زئيف الطعم بعد أن أبدى أمام المصريين إعجابه بذكائهم وطريقتهم في العمل، وعلى الفور أرسل إلى الإسرائيليين تقريرا مفصلا عن هذا الأمر.
في مطلع الستينيات، كان رئيس الموساد إيسار هاريل مشغولا للغاية بخطورة وضع العلماء الألمان في مصر والذين يعملون على تطوير برامج الصواريخ أرض أرض، كان الإسرائيليون يراقبون عن بعد وبكل خوف تفاصيل هذا البرنامج الذي يشكل تهديدا استراتيجيا لمنظومة الدفاع الإسرائيلية، وعليه، كلف زئيف بتجميع معلومات عن هذا البرنامج.
قبل أن يصله هذا التكليف، لم يكن زئيف قد جمع عن العلماء الألمان في مصر سوى النذر اليسير من المعلومات، لكن بعد ستة أسابيع من التكليف، طار زئيف إلى باريس حاملا معه قائمة مطولة بكل العلماء والخبراء الألمان العاملين في مصر، ضمت القائمة أيضا عناوين وأماكن تجمع هؤلاء الألمان، فضلا عن معلومات حول عائلاتهم في كل من النمسا وألمانيا ( كان يستقي معلوماته كما يبدو من أبناء الجالية الألمانية ذاتها والتي جمعته بهم صلات قوية للغاية)، وعلاوة على ذلك، حصل زئيف على معلومات عن دور كل عالم وخبير ألماني في مصانع التسليح المصرية، ومن المعلومات التفصيلية التي نقلها إلى تل أبيب، علم الإسرائيليون أن المصريين يواجهون صعوبات جمة في«إيجاد نظام توجيه يمكن الوثوق به».
غادر القاهرة.. وإلا
ومع تزايد القلق الإسرائيلي من تواجد الألمان في مصر، قررت تل أبيب شن حملة تهديد ضد العلماء الألمان العاملين في المنشآت المصرية، وكان زئيف الذراع التي تولت إرسال خطابات التهديد بالقتل إليهم في عقر دارهم، وفي رسالة موجهة إلى أحد هؤلاء العلماء، جاء :«نكتب إليك كي نخبرك بأن اسمك قد أدرج في القائمة السوداء التي تضم كافة أسماء العلماء الألمان العاملين في مصر، نود منك أن تنظر بعين الاهتمام إلى أمان أسرتك، زوجتك إليزابيث وطفليك الاثنين نيلس وترودي، من مصلحتك أن تتوقف عن العمل في المصانع الحربية المصرية».
وفي خريف 1964، كانت السياسة الخارجية المصرية قد أخذت منحى مختلفا، حيث بدأ المصريون الاعتماد على المساعدات الاقتصادية والعسكرية من روسيا، وانطلاقا من هذا التوجه، طلب الروس من عبد الناصر دعوة رئيس ألمانيا الشرقية لزيارة القاهرة، اعترضت ألمانيا الغربية، إلا أن المصريين كانوا قد عقدوا العزم على توطيد علاقاتهم مع الروس ولو على حساب الألمان الغربيين، وبالفعل، وجهت الدعوة لرئيس ألمانيا الشرقية لزيارة مصر، وكان ذلك في شتاء 1965، أكثر من هذا أن الروس بدأوا يشتكون من أنشطة الاستخبارات الألمانية الغربية التي تعمل في صف المخابرات الأمريكية ال «سي آي أيه»، وقرر عبد الناصر التعاون مع الروس وإظهار عدم خضوعه لأي ضغوط من جانب الألمان الغربيين، وبها، أمر «بإلقاء القبض على حوالي 30 ألمانيا غربيا يعيشون في القاهرة»، وكان من بين هؤلاء ولفجانج وزوجته وحمويه اللذين كانا في ذلك الوقت يجريان زيارة خاطفة لمصر.
إجراء شكلي قال المصريون للسفارة الألمانية أن عملية القبض تلك ليست سوى إجراء شكلي، وسيتم إطلاق سراح جميع المقبوض عليهم بعد انتهاء زيارة رئيس ألمانيا الشرقية ( فالتر أولبريشت)، وبالطبع، لم يكن زئيف على علم بالدافع من وراء إلقاء القبض عليه، وظن أن المصريين قد كشفوا أنشطة التجسس التي يمارسها على الأراضي المصرية، وأول ما خطر بباله، زوجته الألمانية ( كان الموساد قد حذره من قبل من مغبة الارتباط بها)، فشك في أمرها، ومما زاد من شكوكه أن إلقاء القبض عليه تم بعد مجيء حمويه لزيارة مصر، ومع تنامي تلك الشكوك، قرر العميل الإسرائيلي ولفجانج لوتس التعاون مع المصريين!!
بدأت جلسات استجواب ولفجانج كإجراء روتيني تتبعه السلطات المصرية، ومع توالي الأسئلة وحياد ملامح الوجه التي بدت على المستجوب المصري، لم يجد زئيف نفسه إلا وهو يفصح له بكل ما يعرفه عن مصر من أول لحظة وطئت قدماه مطار القاهرة، الغريب في الأمر حقا أن المستجوب المصري لم يبد أي تأثر أو اندهاش، الأمر الذي أكد لزئيف شكوكه من أنه وقع بالفعل في المصيدة، قال له المستجوب:«أريد أن أعرف المكان الذي تخفي فيه أدوات التجسس التي تستخدمها»، ثم تابع في لهجة ثابتة تنم عن حضور الذهن ومع التظاهر وكأنه ملم بكل شيء عن المتهم، قال: «إننا نعرف كل شيء، وحتى لا نضيع الوقت، وقتنا ووقتك، من الأفضل لك أن تعترف بكل شيء الآن».
في الحمام
رد زئيف على المستجوب قائلا له: «ستجد جهاز إرسال في دورة المياه»، وأضاف موضحا أنه يلجأ إلى إخفاء متفجرات وأفلام دقيقة الحجم في علب الصابون داخل دورة المياه، ولدى تفتيش منزله، عثر المصريون بالفعل على تلك الأشياء، فضلا عن 75 ألف دولار كان يحتفظ بها العميل الإسرائيلي في فئات نقدية متنوعة من الدولار الأمريكي.
ولكن بفضل مهارات التمثيل وبرود أعصابه، استطاع ولفجانج أن يخلط في اعترافاته بين الحقائق والأكاذيب، فادعى أنه يعمل لصالح الإسرائيليين بعد أن مارسوا عليه ضغوطا هائلة، وأنه استجاب لتلك الضغوط لضعف في تكوينه الشخصي ورغبته العارمة في امتلاك إسطبل للخيول.
ربما صدق المصريون تلك الاعترافات، وربما شكوا في بعض جوانبها، والدليل على ذلك أن زئيف حاول تخليص زوجته فالتراود وأبويها من أي تهم تجسس موجهة إليهم، إلا أن المصريين أصروا على التشكيك في وجودهم في مصر ولم يصدقوا ما قاله زئيف عنهم، من جانب آخر، تأكد المصريون من أن وفلجانج ليس يهودي الأصل بعد أن أجروا عليه كشفا صحيا تبين لهم فيه أن المتهم غير«مختون».
ومع كل.، طلب منه المصريون اعترافات كاملة عن كل الاتصالات والعلاقات التي أقامها في مصر، وخصوصا مع مدربيه والأشخاص الذين دربهم على ركوب الخيل.
وتزداد الأمور سوءا بالنسبة لوفجانج حين تصل إلى السلطات المصرية رسالة من محام ألماني كان وكيلا عن الضحايا الألمان الذين تعرضوا للتهديدات الإسرائيلية إبان إقامتهم في مصر، في تلك الرسالة، أكد المحامي الألماني بما لا يدع مجالا للشك أن والدة ولفجانح يهودية الأصل وقد ارتحلت إلى فلسطين في أوائل الثلاثينيات، فضلا عن معلومات حول الفترة التي قضاها ولفجانج في خدمة جيش الدفاع الإسرائيلي، أقسم ولوفجانج أن كل هذه المعلومات ملفقة وغير صحيحة وأنها محاولة للنيل والانتقام منه.
إلا أن القضاء المصري كان له كلمة أخرى، ففي الحادي والعشرين من أغسطس عام1965، حكم على ولفجانج لوتس بالسجن مدى الحياة مع الأشغال الشاقة المؤبدة، في حين حكم على زوجته فالتراود بالسجن لمدة ثلاث سنوات فقط! .
ولد ولفجانج لوتس في مدينة مانهايم الألمانية عام 1921، كان والده مخرجا مسرحيا، والأم ممثلة، لم يكن هناك أي إشارات تدل على أن الأبوين من أصل يهودي، بل وأكد بعض المقربين منهما أنهما لم ينتميا إلى أي ديانة من الأصل، ولعل هذا هو سبب عدم اهتمام الأبوين بإجراء عملية الختان للابن، ومسألة عدم الختان تلك كانت أولى المزايا التي رشحت ولفجانج للعمل في صفوف الاستخبارات الصهيونية فيما بعد وعلى نحو ما سنرى لاحقا.
إلى فلسطين
انفصل الزوجان عام 1931، وارتحلت الأم ومعها ابنها في سن العاشرة إلى فلسطين عام 1931 في أعقاب اعتلاء هتلر منصة الحكم في ألمانيا، وفي تل أبيب، لم تجدالأم وسيلة للعيش سوى أن تمارس مهنتها كممثلة مسرحية، في حين التحق الابن بمدرسة « بين شين» الزراعية، ويبدو أن استقرار الابن مع أمه في فلسطين قد شجعه على تغيير اسمه. فصار «زئيف جو أريحا» بعد أن كان ولفجانج لوتس، وبعد فترة من الوقت، صار زئيف«مدربا للخيول وخبيرا في شؤون الفروسية»، وحين بلغ سن الخامسة عشرة، انضم إلى عصابات «الهاجانا»، وفوضت إليه العديد من المهام كان من بينها حماية الحافلة المدرعة وسيلة المواصلات الوحيدة التي تقل أبناء اليهود إلى المدرسة الزراعية «بين شين»، كما انضم إلى فرق الخيالة التي تدور في نوبات الحراسة المستمرة حول أسوار المدرسة ذاتها حماية لها من أي أعمال مقاومة من جانب الفلسطينيين.
واندلعت الحرب العالمية الثانية عام 1939، ولتمكنه من اللغتين الإنجليزية والألمانية، إلى جانب إجادته للعبرية والعربية، كان«زئيف» صيدا ثميناً استطاعت القوات البريطانية الإيقاع به في شباكها من جملة العناصر الصهيونية المتطرفة الأخرى التي خدمت في صفوف البريطانيين إبان الحرب، وبعد انضمامه إلى القوات الإنجليزية، أرسل زئيف إلى مصر، كانت المهمة الأساسية التي أوكلت إليه هي استجواب الأسرى الألمان الذين وقعوا في أيدي القوات البريطانية.
وبعد أن عاد إلى فلسطين، انخرط على الفور في أنشطة تهريب الأسلحة لعصابات الهاجانا، وعقب إعلان قيام الدولة الصهيونية في مايو 1948، خدم زئيف في قوات الدفاع الإسرائيلية برتبة ملازم أول، وشارك في العديد من العمليات العسكرية التي شنها الصهاينة بعد إعلان دولتهم، ومن بينها عمليات الاشتباك مع العرب في منطقة لاترون، وظل يخدم في صفوف الجيش الإسرائيلي حتى ترقى لرتبة«لواء»، وقاد كتيبة مشاة كان لها دور ضمن القوات الصهيونية التي شاركت في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.
النازي السابق
بعد انتهاء أزمة السويس بفترة قصيرة، بدأت الاستخبارات الصهيونية (الموساد)الاتصال بزئيف وبحثت معه إمكانية انضمامه إليها، خاصة وأن ملامح وجهه لاتدل على أنه صهيوني ،فعلى حد تذكره :«كنت أشقر اللون، قصيراً وممتلئاً، وملامحي تدل على أنني ضابط سابق في الجيش الألماني»، كان صاحب عينين زرقاوين، وبلكنته الألمانية، كان باستطاعته ارتداء قناع زائف ينم عن مواطن ألماني مائة في المائة، علاوة على ذلك، ورث زئيف عن أمه مهارة التمثيل، وبما أنه غير مختون، بات من السهل تجنيده وإرساله إلى مصر كمواطن ألماني دون الشك في يهوديته.
لدى بلوغه سن الخامسة والثلاثين، رأى زئيف أن عمله في الجيش لا يوفر له مستقبلا آمنا، ومع علمه بصعوبة تدريبات الموساد وما تحمله من مشاق ومتاعب جسدية ونفسية، قبل عرض الموساد بروح متفائلة مندفعة.
وبدأ العمل، كان المطلوب منه في البداية هو إقناع الجهات التي سينقل نشاطه إليها بأنه«ضابط نازي سابق»، مع إزالة أي شكوك قد تحوم حوله على أنه «يهودي»، ولعمل الغطاء الذي سيتستر من ورائه في أنشطته التجسسية، أرسل زئيف إلى ألمانيا الغربية، وهناك، من المفترض أن يتحرك ولفجانج تحت قناع«رجل أعمال ألماني خدم في جيش هتلر في دول شمال أفريقيا، فضلا عن أحد عشر عاما قضاها في أستراليا يربي خيول السباق»، مقدمة لابد منها قبل الانتقال إلى مصر، والتي سيقوم فيها باختراق الجالية الألمانية التي تعيش وتعمل في مصر.
الألمان في مصر
خاض زئيف دورات تدريبية مكثفة ومجهدة استمرت عدة أشهر، فضلا عن دورات في التاريخ والسياسة والثقافة المصرية، وفي مطلع عام 1957، صدر القرار بإرسال زئيف إلى مصر لتجميع معلومات عن الأسلحة الروسية التي حصلت عليها الحكومة المصرية في عهد جمال عبد الناصر، لكن السبب الآخر لهذه الزيارة، وربما الأهم، هو زرع عميل على مستوى عال في مصر ليقوم بنشاط تجسسي دائم، وقد جاء هذا القرارفي أعقاب التقارير المستمرة التي تتناول التأثير المتزايد للمستشارين الألمان الذين دعاهم عبد الناصر لزيارة مصر، وتدعي بعض التقارير أن غالبية هؤلاء المستشارين كانوا من النازيين السابقين، وقيل إن عبد الناصر رغب في دعوة العلماء والمهندسين والأطباء وخبراء الأمن من ألمانيا إلى مصر ليشغلوا مواقع حساسة تسمح لهم بالمشاركة في وضع خطط ومشاريع التنمية والتصنيع التي كان يحلم بتحقيقها، أكثر من ذلك أن الموساد كان يترقب بقلق وتوتر بالغين اشتراك العلماء الألمان في صناعة الصاروخ المصري، كان يريد معرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات الدقيقة، وعلى زئيف أن يوفر تلك المعلومات!
إلى مصر
وفي نوفمبر 1959، سافر زئيف إلى ألمانيا، وقضى عاما كاملا في التنقل بين المدن الألمانية كنوع من التمويه والإفلات من أي أعين قد تتربص به، وأخيرا،انتقل إلى مصر، البعض يقول في ديسمبر 1960 وآخرون يزعمون في يناير 1961، وما إن وطأت قدماه مصر، بدأ في الاتصال بالشخصيات الألمانية، ذهب إلى نوادي الفروسية، وسرعان ما اكتشف أن شخصية عسكرية مصرية مرموقة (....)، تتردد على أحد هذه النوادي، كثف زئيف زياراته إلى هذا النادي (....)، وسرعان ما تعرف على هذه الشخصية العسكرية، قدم نفسه على أنه من عشاق رياضة الخيل، ومربي محترف لسلالات خيول السباق، ولم يمض وقت طويل إلا وقد تطور التعارف وصارصداقة حميمة.
بعد فترة، ذاع صيت رجل الأعمال الألماني الثري الذي وفد إلى مصر مؤخرا ويتردد على نوادي الفروسية، في الوقت نفسه، قدم زئيف نفسه لأبناء جاليته الألمانية، وبدأ يتلقى دعوات إلى حفلات تجتمع فيها الشخصيات البارزة من المصريين والألمان، أما الشخصية العسكرية المرموقة، فصارت تقابل زئيف يوميا ليمارسا معا رياضةركوب الخيل.
وبعد ستة أشهر، عاد«زئيف» إلى أوربا لإبلاغ الصهاينة بنتائج زيارته إلى مصر، بدأت بعد ذلك ترتيبات العودة إلى مصر مجددا ومعه مبلغ كبير من المال وجهاز إرسال يتصل من خلاله سرا برؤسائه في تل أبيب، عاد إلى القاهرة وقد نال لقب« عين تل أبيب في القاهرة»، وصار جنبا إلى جنب العميل الصهيوني إيلي كوهين ( رجل الموساد في دمشق) محط اهتمام كل العاملين في جهاز الموساد.
لكن قبل عودته إلى القاهرة، وقع حادث في غاية الغرابة بالنسبة لجاسوس يعمل في نفس موقف وظروف زئيف.
كان زئيف قد تزوج في إسرائيل، إلا أن تجربة زواجه لم يكتب لها النجاح، وأصيبت بحالة«جمود» بينه وبين زوجته دون أن ينفصل عنها، وظل زئيف على هذا الحال دون أن يرتبط بأي امرأة أخرى، لكن لدى عودته من باريس إلى القاهرة في يونيو عام 1961، قابل زئيف امرأة قال عنها«آية من الجمال»، كان اسمها فالتراود مارثا نيومان، لاجئة من ألمانيا الشرقية تعيش في أمريكا، وكانت في طريقها من باريس إلى ألمانيا لزيارة أبويها.
تصرف غريب
بعد أسبوعين فقط من تعارفهما، تزوج زئيف على فالتراود، تصرف غريب ومتهور من شخص يعمل في مجال الجاسوسية ومدرب على كافة وسائل الحيطة والحذر، لم يرجع زئيف إلى رؤسائه في تل أبيب قبل أن يتخذ قرار الزواج، بل وسارع بأخذ عروسه معه إلى القاهرة، الأمر الذي سيتطور على نحو يجعل فالتراود تساومه بعد أن يفصح لها عن طبيعة عمله في القاهرة.
ازداد الموقف تعقدا وسوءا عندما أخبر زئيف امرأته أنه يعمل كجاسوس لصالح إسرائيل في مصر، ونظرا لشدة حاجة الموساد إلى وجود عميل له في مصر، اضطرالإسرائيليون إلى الموافقة على الاستمرار في التعامل مع زئيف رغم فداحة الفخ الذي أوقع فيه نفسه.
ويقول بعض الباحثين في سيرة ولفجانج لوتس ان هناك تقارير غير مؤكدة تفيد بأن فالتراود كانت جزءاً من الغطاء الذي مارس من خلاله زئيف دوره في مصر، وأن الاستخبارات الألمانية الغربية هي التي دفعت بتلك المرأة في طريقه كجزء من خطط التعاون المشتركة بين الاستخبارات الألمانية الغربية والإسرائيلية.
وأياً كان وجه الحقيقة، ارتبط زئيف بفالتراود، وهي بدورها لم تتردد في الزواج منه، بل والاشتراك معه في أعمال التجسس فور أن أفصح لها عن هويته الحقيقية!
وعاد زئيف إلى مصر في صيف 1961، وتلته فالتراود بعد أسابيع قليلة، وكان في استقبال زئيف بالمطار الشخصية الأمنية المرموقة، حيث اتفق الاثنان على إقامة حفل صغير احتفالاً بعودته إلى مصر، وفي الحفل، انفرد زئيف بنفسه وقام بإرسال أول رسالة أثيرية إلى تل أبيب عبر الجهاز اللاسلكي الذي كان يخفيه في مكان ما من منزله.
مع الرجل الثاني
كان زئيف ينفق الأموال بلا حساب، ينفقها على شراء الهدايا وإقامة الحفلات الصاخبة لأصدقائه من أبناء الجالية الألمانية في مصر، هذا إلى جانب الإنفاق على تربية الخيول التي تعطيه المبرر المنطقي الوحيد لبقائه في مصر وتردده على نوادي علية القوم، وجنبا إلى جنب زوجته التي رافقته في كل زياراته وتحركاته، تشعبت علاقات الاثنين بكبار الشخصيات الألمانية التي تعمل كخبراء في الحكومة المصرية، بل وصلت تلك العلاقات إلى حد التعرف على اثنين من أهم الشخصيات العسكرية المصرية، وكلاهما يشغلان مراكز حساسة في الاستخبارات العسكرية المصرية، كان أحد هاتين الشخصيتين (.......) مسؤولا عن قواعد الصواريخ والمصانع العسكرية، وبالتالي كان«مسؤولا عن حماية كافة الإنشاءات العسكرية التي يسعى زئيف إلى رصدها وكشفها للموساد في تل أبيب»، وتقول بعض التقارير ان زئيف كان على علاقة بالرجل الثاني (.....) في الحكومة المصرية، وكان له دور«غير مقصود» في تعريف العميل الإسرائيلي بقرارات رسمية في غاية الخطورة قبل أن تصل حتى إلى كبار المسؤولين في الحكومة المصرية.
وترسخت العلاقات بين زئيف وأبناء الجالية الألمانية في مصر، حتى أنه صارصديقا أثيرا ومقربا لعدد كبير منهم. وأثمرت علاقات زئيف مع كبار الشخصيات العسكرية المصرية والخبراء الألمان في التعرف على معلومات مثلت للإسرائيليين قيمة لا حد لها، وكان من بينها القواعد العسكرية السرية بالقرب من قناة السويس، بل ووصلت إليه معلومات عن المطارات التي تخزن فيها طائرات الميج التي كانت تستوردها مصر من روسيا، وأيضا معلومات عن الطيارين ومراكز الاتصالات وحظائر الطائرات.
في نفس التوقيت، حاول الإسرائيليون الحصول على معلومات عن قاعدة الصواريخ الروسية« سام»( صواريخ أرض جو) التي كان يبنيها المهندسون العسكريون المصريون بالقرب من قناة السويس، وتحديدا في مدينة الإسماعيلية، كانت مهمة مستحيلة على عميل متواضع إلى حد ما مثل زئيف، لكنه غامر واندفع وحاول الاقتراب من تلك المنطقة، فوقع في أيدي رجال الأمن المصريين، وتظاهر بأنه لا يعرف طبيعة المكان الموجود فيه، وبعد اتصالات عديدة مع معارفه من الألمان والمصريين، أطلق سراحه ولكن بعد أن قرر المصريون «توظيفه» بشكل ما في صراعهم ضد الإسرائيليين.
الطعم
فقد تعمد المصريون أن يتحدثوا أمامه عن خطة الخلط بين الطائرات الحقيقية والمزيفة في المطارات العسكرية المصرية، بهدف نقل تلك المعلومة إلى القوات الجوية الإسرائيلية الأمر الذي يسبب لها إرباكا في أي خطط محتملة لضرب المطارات المصرية، بلع زئيف الطعم بعد أن أبدى أمام المصريين إعجابه بذكائهم وطريقتهم في العمل، وعلى الفور أرسل إلى الإسرائيليين تقريرا مفصلا عن هذا الأمر.
في مطلع الستينيات، كان رئيس الموساد إيسار هاريل مشغولا للغاية بخطورة وضع العلماء الألمان في مصر والذين يعملون على تطوير برامج الصواريخ أرض أرض، كان الإسرائيليون يراقبون عن بعد وبكل خوف تفاصيل هذا البرنامج الذي يشكل تهديدا استراتيجيا لمنظومة الدفاع الإسرائيلية، وعليه، كلف زئيف بتجميع معلومات عن هذا البرنامج.
قبل أن يصله هذا التكليف، لم يكن زئيف قد جمع عن العلماء الألمان في مصر سوى النذر اليسير من المعلومات، لكن بعد ستة أسابيع من التكليف، طار زئيف إلى باريس حاملا معه قائمة مطولة بكل العلماء والخبراء الألمان العاملين في مصر، ضمت القائمة أيضا عناوين وأماكن تجمع هؤلاء الألمان، فضلا عن معلومات حول عائلاتهم في كل من النمسا وألمانيا ( كان يستقي معلوماته كما يبدو من أبناء الجالية الألمانية ذاتها والتي جمعته بهم صلات قوية للغاية)، وعلاوة على ذلك، حصل زئيف على معلومات عن دور كل عالم وخبير ألماني في مصانع التسليح المصرية، ومن المعلومات التفصيلية التي نقلها إلى تل أبيب، علم الإسرائيليون أن المصريين يواجهون صعوبات جمة في«إيجاد نظام توجيه يمكن الوثوق به».
غادر القاهرة.. وإلا
ومع تزايد القلق الإسرائيلي من تواجد الألمان في مصر، قررت تل أبيب شن حملة تهديد ضد العلماء الألمان العاملين في المنشآت المصرية، وكان زئيف الذراع التي تولت إرسال خطابات التهديد بالقتل إليهم في عقر دارهم، وفي رسالة موجهة إلى أحد هؤلاء العلماء، جاء :«نكتب إليك كي نخبرك بأن اسمك قد أدرج في القائمة السوداء التي تضم كافة أسماء العلماء الألمان العاملين في مصر، نود منك أن تنظر بعين الاهتمام إلى أمان أسرتك، زوجتك إليزابيث وطفليك الاثنين نيلس وترودي، من مصلحتك أن تتوقف عن العمل في المصانع الحربية المصرية».
وفي خريف 1964، كانت السياسة الخارجية المصرية قد أخذت منحى مختلفا، حيث بدأ المصريون الاعتماد على المساعدات الاقتصادية والعسكرية من روسيا، وانطلاقا من هذا التوجه، طلب الروس من عبد الناصر دعوة رئيس ألمانيا الشرقية لزيارة القاهرة، اعترضت ألمانيا الغربية، إلا أن المصريين كانوا قد عقدوا العزم على توطيد علاقاتهم مع الروس ولو على حساب الألمان الغربيين، وبالفعل، وجهت الدعوة لرئيس ألمانيا الشرقية لزيارة مصر، وكان ذلك في شتاء 1965، أكثر من هذا أن الروس بدأوا يشتكون من أنشطة الاستخبارات الألمانية الغربية التي تعمل في صف المخابرات الأمريكية ال «سي آي أيه»، وقرر عبد الناصر التعاون مع الروس وإظهار عدم خضوعه لأي ضغوط من جانب الألمان الغربيين، وبها، أمر «بإلقاء القبض على حوالي 30 ألمانيا غربيا يعيشون في القاهرة»، وكان من بين هؤلاء ولفجانج وزوجته وحمويه اللذين كانا في ذلك الوقت يجريان زيارة خاطفة لمصر.
إجراء شكلي قال المصريون للسفارة الألمانية أن عملية القبض تلك ليست سوى إجراء شكلي، وسيتم إطلاق سراح جميع المقبوض عليهم بعد انتهاء زيارة رئيس ألمانيا الشرقية ( فالتر أولبريشت)، وبالطبع، لم يكن زئيف على علم بالدافع من وراء إلقاء القبض عليه، وظن أن المصريين قد كشفوا أنشطة التجسس التي يمارسها على الأراضي المصرية، وأول ما خطر بباله، زوجته الألمانية ( كان الموساد قد حذره من قبل من مغبة الارتباط بها)، فشك في أمرها، ومما زاد من شكوكه أن إلقاء القبض عليه تم بعد مجيء حمويه لزيارة مصر، ومع تنامي تلك الشكوك، قرر العميل الإسرائيلي ولفجانج لوتس التعاون مع المصريين!!
بدأت جلسات استجواب ولفجانج كإجراء روتيني تتبعه السلطات المصرية، ومع توالي الأسئلة وحياد ملامح الوجه التي بدت على المستجوب المصري، لم يجد زئيف نفسه إلا وهو يفصح له بكل ما يعرفه عن مصر من أول لحظة وطئت قدماه مطار القاهرة، الغريب في الأمر حقا أن المستجوب المصري لم يبد أي تأثر أو اندهاش، الأمر الذي أكد لزئيف شكوكه من أنه وقع بالفعل في المصيدة، قال له المستجوب:«أريد أن أعرف المكان الذي تخفي فيه أدوات التجسس التي تستخدمها»، ثم تابع في لهجة ثابتة تنم عن حضور الذهن ومع التظاهر وكأنه ملم بكل شيء عن المتهم، قال: «إننا نعرف كل شيء، وحتى لا نضيع الوقت، وقتنا ووقتك، من الأفضل لك أن تعترف بكل شيء الآن».
في الحمام
رد زئيف على المستجوب قائلا له: «ستجد جهاز إرسال في دورة المياه»، وأضاف موضحا أنه يلجأ إلى إخفاء متفجرات وأفلام دقيقة الحجم في علب الصابون داخل دورة المياه، ولدى تفتيش منزله، عثر المصريون بالفعل على تلك الأشياء، فضلا عن 75 ألف دولار كان يحتفظ بها العميل الإسرائيلي في فئات نقدية متنوعة من الدولار الأمريكي.
ولكن بفضل مهارات التمثيل وبرود أعصابه، استطاع ولفجانج أن يخلط في اعترافاته بين الحقائق والأكاذيب، فادعى أنه يعمل لصالح الإسرائيليين بعد أن مارسوا عليه ضغوطا هائلة، وأنه استجاب لتلك الضغوط لضعف في تكوينه الشخصي ورغبته العارمة في امتلاك إسطبل للخيول.
ربما صدق المصريون تلك الاعترافات، وربما شكوا في بعض جوانبها، والدليل على ذلك أن زئيف حاول تخليص زوجته فالتراود وأبويها من أي تهم تجسس موجهة إليهم، إلا أن المصريين أصروا على التشكيك في وجودهم في مصر ولم يصدقوا ما قاله زئيف عنهم، من جانب آخر، تأكد المصريون من أن وفلجانج ليس يهودي الأصل بعد أن أجروا عليه كشفا صحيا تبين لهم فيه أن المتهم غير«مختون».
ومع كل.، طلب منه المصريون اعترافات كاملة عن كل الاتصالات والعلاقات التي أقامها في مصر، وخصوصا مع مدربيه والأشخاص الذين دربهم على ركوب الخيل.
وتزداد الأمور سوءا بالنسبة لوفجانج حين تصل إلى السلطات المصرية رسالة من محام ألماني كان وكيلا عن الضحايا الألمان الذين تعرضوا للتهديدات الإسرائيلية إبان إقامتهم في مصر، في تلك الرسالة، أكد المحامي الألماني بما لا يدع مجالا للشك أن والدة ولفجانح يهودية الأصل وقد ارتحلت إلى فلسطين في أوائل الثلاثينيات، فضلا عن معلومات حول الفترة التي قضاها ولفجانج في خدمة جيش الدفاع الإسرائيلي، أقسم ولوفجانج أن كل هذه المعلومات ملفقة وغير صحيحة وأنها محاولة للنيل والانتقام منه.
إلا أن القضاء المصري كان له كلمة أخرى، ففي الحادي والعشرين من أغسطس عام1965، حكم على ولفجانج لوتس بالسجن مدى الحياة مع الأشغال الشاقة المؤبدة، في حين حكم على زوجته فالتراود بالسجن لمدة ثلاث سنوات فقط! .