حياتها:
ولدت الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان في مدينة نابلس سنة 1917 لعائلة عريقة غنية ومحافظة جداً، وفيها تلقت تعليمها الابتدائي ولم تكمل مرحلة التعليم التي بدأتها في مدارس المدينة، فقد أخرجت من المدرسة لأسباب اجتماعية قاسية، جعلتها تتلقى أول ضربة في حياتها عندما ألقى القدر في طريقها بشاب صغير رماها بوردة فل تعبيراً عن إعجابه بها، وقد وصفت فدوى تلك الحادثة: "كان هناك من يراقب المتابعة، فوشى بالأمر لأخي يوسف، ودخل يوسف علي كزوبعة هائجة (قولي الصدق)... وقلت الصدق لأنجو من اللغة الوحيدة التي كان يخاطب بها الآخرين، العنف والضرب بقبضتين حديديتين، وكان يتمتع بقوة بدنية كبيرة لفرط ممارسته رياضة حمل الأثقال.
أصدر حكمَه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي كما هدد بالقتل إذا ما تخطيت عتبة المنزل، وخرج من الدار لتأديب الغلام.
قبعت داخل الحدود الجغرافية التي حددها لي يوسفـ، ذاهلةً لا أكاد أصدق ما حدث. ما أشد الضرر الذي يصيب الطبيعة الأصلية للصغار والمراهقين بفعل خطأ التربية وسوء الفهم”.
عانت فدوى طوقان قسوة الواقع الاجتماعي الذي قذف بها بعيداً بين جدران البيت السماوي في البلدة القديمة من مدينة نابلس، تنظر إلى نفسها بشيء من الخجل والاتهام، لقد فقدت أحب شيء إلى نفسها (المدرسة) التي أرادت أن تثبت نفسها من خلالها، وحرمت منها وهي في أمس الحاجة لها تصف فدوى طوقان موقف أبيها منها الذي لا يخاطبها مباشرة على عادة الرجال في زمانه- وإنما يخاطب أمها إذا أراد أن يبلغها شيئاً، ثم تقوم أمها بعد ذلك بتوصيل ما يريده أبوها منها، تقول:
"عاد أبي ذات صباح إلى البيت لبعض شأنه وكنت أساعد أمي في ترتيب أسرة النوم. وحين رآني سأل امي: لماذ لا تذهب البنت إلى المدرسة؟ “
قالت: تكثر في هذه الأيام القصص حول البنات فمن الأفضل وقد بلغت هذه السن أن تبقى في البيت . "قال أبي:" حسناً" وخرج!
كان أحياناً إذا أراد أن يبلغني أمراً يستعمل صيغة الغائب ولوكنت حاضرة بين عينيه، كان يقول لأمي: قولي للبنت تفعل كذا وكذا... وقولي للبنت إنها تكثر من شرب القهوة، فلا أراها إلا وهي تحتسي القهوة ليلاً ونهاراً وهكذا.
كان أشد ما عانيته حرماني من الذهاب الى المدرسة وانقطاعي عن الدراسة.
كانت أختي أديبة تجلس في المساء لتحضير دروس اليوم التالي،
تفتح حقيبة كتبها وتنشر دفاترها حولها، وتشرع في الدراسة وعمل التمارين المقررة.
وهماً كنت أهرب إلى فرا
شي لأخفي دموعي تحت الغطاء، وبدأ يتكشف لدي الشعور الساحق بالظلم.”
وفي وقت متأخر من ليل الجمعة الثالث عشر من ديسمبر لعام ألفين وثلاثة رحلت فدوى طوقان عن عمر يناهز الخامسة والثمانين من عمرها، بعد رحلة عطاء طويلة أصلت فيها لمرحلة جديدة من تاريخ الشعر الفلسطيني بشكل خاص والشعر العربي بشكل عام.
علاقة فدوى بأخيها إبراهيم:
بدأت علاقة الشاعرة بأخيها إبراهيم منذ وقت مبكر من حياتها، وكان بالنسبة لها الأمل الوحيد المتبقي في عالمها المثقل بعذابات المرأة وظلم المجتمع، ورأت فيه الضوء الذي يطل عليها من خلف أستار العتمة والوحشة والوحدة.
وشكلت عودة إبراهيم من بيروت إلى نابلس، في تموز 1929 ، بعد أن أكمل دراسته وحصل على شهادته من الجامعة الأمريكية ببيروت، عاملاً مساعداً لإعادة بعض الفرح، إن لم نقل الفرح كله، إلى حياة فدوى طوقان، ورأت في قربه منها عاملاً مساعداً في إعادة ثقتها بنفسها، وترسيخ خطواتها على درب التعليم الذاتي الذي ألزمت نفسها به بعد أن أجبرت على ترك المدرسة، تقول:
“كانت عاطفة حبي له قد تكونت من تجمع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو مسببها وباعثها.
أول هدية تلقيتها في صغري كانت منه
أول سفر من أسفار حياتي كان برفقته
كان هو الوحيد الذي ملأ فراغ النفس الذي عانيته بعد فقدان عمي، والطفولة التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل وجدت الأب الضائع مع الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها.
إن تلك الهدية بالذات، التي كانت قد أحضرها إلي من القدس أيام كان تلميذاً في مدرسة المطران، تلك الهدية التي كانت أول أسباب تعلقي بإبراهيم ذلك التعلق الذي راح يتكشف فيما بعد بصورة قوية.
كان تعامله معي يعطيني انطباعاً بأنه معني بإسعادي وإشاعة الفرح في قلبي، لا سيما حين كان يصطحبني في مشاويره إلى الجانب الغربي من سفح جبل عيبال”.
وبعد إقامة إبراهيم في نابلس بدأ سطر جديد في حياة فدوى طوقان فنذرت نفسها لخدمته والاعتناء به، وتهيئة شؤونه، ورأت في ذلك غاية سعادتها ومنتهى طموحها، وقد بلغ من تعلقها بأخيها أنها كانت تخاف عليه المرض والأذى، فهو الهواء الذي تتنفسه رئتاي كما تقول وكان إبراهيم يبادلها حباً بحب، يأخذ بيدها، ويحاول تخفيف معاناتها، بخاصة عندما عرف بقصتها، وما حل بها من فقدان المدرسة والتزام البيت، تقول: "كان قد علم من أمي سبب قعودي في البيت، لكنه وهو الإنسان الواسع الأفق، الحنون، العالم بدخائل النفس البشرية، نظر إلى ذلك الأمر نظرة سبقت الزمن خمسين سنة إلى الأمام لم يتدخل، ولم يفرض إرادته على يوسف العنيف، لكنه راح يعاملني بالحب والحنو الغامر.
وظلت تتجمع الأمور الصغيرة لتصبح جسراً ينقلني من حال إلى حال".
ولم يترك القدر لفدوى هذا السراج الذي لاح مضيئاً في سمائها المظلم، فقد أقيل أخوها من عمله في القسم العربي في الإذاعه الفلسطينية وغادر مع عائلته إلى العراق بضعة أشهر مرض فيها هناك، ثم عاد إلى نابلس ومات فيها، تقول فدوى: "وتوفي شقيقي إبراهيم فكانت وفاته ضربة أهوى بها القدر على قلبي ففجر فيه ينبوع ألم لا ينطفئ ومن هذا الينبوع تتفجر أشعاري على اختلاف موضوعاتها:".
وانكسر شيء في أعماقي، وسكنتني حرقة اليتم.
فدوى طوقان والشعر:
كانت فدوى تتابع أخاها إبراهيم في كتابته للشعر، وتوجيهه للطلاب الذين كانوا يكتبونه، وقد سمعته مرة وهو يحدث أمه عن تلميذين من تلاميذه قد جاءا إليه بقصائد من نظمهما خالية من عيوب الوزن والقافية، فقالت "نيالهم".
وعندما سمعها إبراهيم، وهي تتكلم بحسرة، كأنها تلومه على عطائه مع تلاميذه وتقصيره معها، فنظر إليها وصمت، ثم قال فجأة: سأعلمك نظم الشعر، هيا معي. كانت أمي قد سكبت له الطعام، ولكنه ترك الغرفة، ولحقت به، وارتقينا معاً السلم المؤدي إلى الطابق الثاني حيث غرفته ومكتبته. وقف أمام رفوف الكتب وراح ينقل عينيه فيها باحثاً عن كتاب معين. أما أنا فكان قلبي يتواثب في صدري، وقد كتمت أنفاسي اللاهثة، دقيقتين، وأقبل علي وفي يده كتاب الحماسة لأبي تمام، نظر في الفهرس ثم فتح الكتاب عند صفحته بالذات، قال: هذه القصيدة سأقرؤها لك وأفسرها بيتاً بيتاً ثم تنقلينها إلى دفتر خاص وتحفظينها غيباً، لأسمعها منك هذا المساء عن ظهر قلب.
ولم يكن اختيار إبراهيم مجرد اختيار عشوائي فقد اختار لها شعراً لامرأة ترثي أخاها، ثم يقول: لقد تعمدت أن أختار لك هذا الشعر لتري كيف كانت نساء العرب تكتب الشعر الجميل، وبدأت رحلة فدوى طوقان مع الشعر تحفظ القصائد التي يختارها لها إبراهيم، وبدأت تتعلم من جديد في مدرستها التي فتح إبراهيم إبوابها، تقول:
“هـا أنا أعود إلى الدفاتر والأقلام والدراسة والحفظ، ها أنا أعود إلى جنتي المفقودة، وعلى غلاف دفتر المحفوظات تلألأت بعيني هذه الكلمات التي كتبتها بخطي الردىء، خط تلميذة في الثالثة عشرة من العمر، الاسم: فدوى طوقان. الصف: شطبت الكلمة وكتبت بدلاً منها المعلم: إبراهيم طوقان. الموضوع: تعلم الشعر. المدرسة: البيت.
وبدت مرحلة جديدة في حياة فدوى طوقان، مرحلة تشعر فيها بذاتيتها وإنسانيتها وحقها في التعلم، وتجدد معها ثقتها بنفسها "أصبحت خفيفة كالطائر، لم أعد مثقلة القلب بالهم والتعب والنفس، في لحظة واحدة انزاح جبل الهوان وابتلعه العدم. وامتدت مكانه في نفسي مساحات مستقبل شاسع مضيئة خضراء كمروج القمح في الربيع".
وحاول المعلم أن يختبر رغبة أخته الصغرى في تعلم الشعر، فتوقف عن مراجعتها لفترة محدودة دون أية كلمة عن الدروس، وفي اليوم الرابع راجعته بصوت مرتعش: هل غيرت رأيك؟ ويأتي الجواب منه سريعاً: لم أغير رأيي، ولكنني توقفت لأتأكد من صدق رغبتك في التعلم، سنواصل اليوم الدرس.
بدأت فدوى طوقان تكتب على منوال الشعر العمودي، ومالت بعد ذلك إلى الشعر الحر.
ولدت الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان في مدينة نابلس سنة 1917 لعائلة عريقة غنية ومحافظة جداً، وفيها تلقت تعليمها الابتدائي ولم تكمل مرحلة التعليم التي بدأتها في مدارس المدينة، فقد أخرجت من المدرسة لأسباب اجتماعية قاسية، جعلتها تتلقى أول ضربة في حياتها عندما ألقى القدر في طريقها بشاب صغير رماها بوردة فل تعبيراً عن إعجابه بها، وقد وصفت فدوى تلك الحادثة: "كان هناك من يراقب المتابعة، فوشى بالأمر لأخي يوسف، ودخل يوسف علي كزوبعة هائجة (قولي الصدق)... وقلت الصدق لأنجو من اللغة الوحيدة التي كان يخاطب بها الآخرين، العنف والضرب بقبضتين حديديتين، وكان يتمتع بقوة بدنية كبيرة لفرط ممارسته رياضة حمل الأثقال.
أصدر حكمَه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي كما هدد بالقتل إذا ما تخطيت عتبة المنزل، وخرج من الدار لتأديب الغلام.
قبعت داخل الحدود الجغرافية التي حددها لي يوسفـ، ذاهلةً لا أكاد أصدق ما حدث. ما أشد الضرر الذي يصيب الطبيعة الأصلية للصغار والمراهقين بفعل خطأ التربية وسوء الفهم”.
عانت فدوى طوقان قسوة الواقع الاجتماعي الذي قذف بها بعيداً بين جدران البيت السماوي في البلدة القديمة من مدينة نابلس، تنظر إلى نفسها بشيء من الخجل والاتهام، لقد فقدت أحب شيء إلى نفسها (المدرسة) التي أرادت أن تثبت نفسها من خلالها، وحرمت منها وهي في أمس الحاجة لها تصف فدوى طوقان موقف أبيها منها الذي لا يخاطبها مباشرة على عادة الرجال في زمانه- وإنما يخاطب أمها إذا أراد أن يبلغها شيئاً، ثم تقوم أمها بعد ذلك بتوصيل ما يريده أبوها منها، تقول:
"عاد أبي ذات صباح إلى البيت لبعض شأنه وكنت أساعد أمي في ترتيب أسرة النوم. وحين رآني سأل امي: لماذ لا تذهب البنت إلى المدرسة؟ “
قالت: تكثر في هذه الأيام القصص حول البنات فمن الأفضل وقد بلغت هذه السن أن تبقى في البيت . "قال أبي:" حسناً" وخرج!
كان أحياناً إذا أراد أن يبلغني أمراً يستعمل صيغة الغائب ولوكنت حاضرة بين عينيه، كان يقول لأمي: قولي للبنت تفعل كذا وكذا... وقولي للبنت إنها تكثر من شرب القهوة، فلا أراها إلا وهي تحتسي القهوة ليلاً ونهاراً وهكذا.
كان أشد ما عانيته حرماني من الذهاب الى المدرسة وانقطاعي عن الدراسة.
كانت أختي أديبة تجلس في المساء لتحضير دروس اليوم التالي،
تفتح حقيبة كتبها وتنشر دفاترها حولها، وتشرع في الدراسة وعمل التمارين المقررة.
وهماً كنت أهرب إلى فرا
شي لأخفي دموعي تحت الغطاء، وبدأ يتكشف لدي الشعور الساحق بالظلم.”
وفي وقت متأخر من ليل الجمعة الثالث عشر من ديسمبر لعام ألفين وثلاثة رحلت فدوى طوقان عن عمر يناهز الخامسة والثمانين من عمرها، بعد رحلة عطاء طويلة أصلت فيها لمرحلة جديدة من تاريخ الشعر الفلسطيني بشكل خاص والشعر العربي بشكل عام.
علاقة فدوى بأخيها إبراهيم:
بدأت علاقة الشاعرة بأخيها إبراهيم منذ وقت مبكر من حياتها، وكان بالنسبة لها الأمل الوحيد المتبقي في عالمها المثقل بعذابات المرأة وظلم المجتمع، ورأت فيه الضوء الذي يطل عليها من خلف أستار العتمة والوحشة والوحدة.
وشكلت عودة إبراهيم من بيروت إلى نابلس، في تموز 1929 ، بعد أن أكمل دراسته وحصل على شهادته من الجامعة الأمريكية ببيروت، عاملاً مساعداً لإعادة بعض الفرح، إن لم نقل الفرح كله، إلى حياة فدوى طوقان، ورأت في قربه منها عاملاً مساعداً في إعادة ثقتها بنفسها، وترسيخ خطواتها على درب التعليم الذاتي الذي ألزمت نفسها به بعد أن أجبرت على ترك المدرسة، تقول:
“كانت عاطفة حبي له قد تكونت من تجمع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو مسببها وباعثها.
أول هدية تلقيتها في صغري كانت منه
أول سفر من أسفار حياتي كان برفقته
كان هو الوحيد الذي ملأ فراغ النفس الذي عانيته بعد فقدان عمي، والطفولة التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل وجدت الأب الضائع مع الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها.
إن تلك الهدية بالذات، التي كانت قد أحضرها إلي من القدس أيام كان تلميذاً في مدرسة المطران، تلك الهدية التي كانت أول أسباب تعلقي بإبراهيم ذلك التعلق الذي راح يتكشف فيما بعد بصورة قوية.
كان تعامله معي يعطيني انطباعاً بأنه معني بإسعادي وإشاعة الفرح في قلبي، لا سيما حين كان يصطحبني في مشاويره إلى الجانب الغربي من سفح جبل عيبال”.
وبعد إقامة إبراهيم في نابلس بدأ سطر جديد في حياة فدوى طوقان فنذرت نفسها لخدمته والاعتناء به، وتهيئة شؤونه، ورأت في ذلك غاية سعادتها ومنتهى طموحها، وقد بلغ من تعلقها بأخيها أنها كانت تخاف عليه المرض والأذى، فهو الهواء الذي تتنفسه رئتاي كما تقول وكان إبراهيم يبادلها حباً بحب، يأخذ بيدها، ويحاول تخفيف معاناتها، بخاصة عندما عرف بقصتها، وما حل بها من فقدان المدرسة والتزام البيت، تقول: "كان قد علم من أمي سبب قعودي في البيت، لكنه وهو الإنسان الواسع الأفق، الحنون، العالم بدخائل النفس البشرية، نظر إلى ذلك الأمر نظرة سبقت الزمن خمسين سنة إلى الأمام لم يتدخل، ولم يفرض إرادته على يوسف العنيف، لكنه راح يعاملني بالحب والحنو الغامر.
وظلت تتجمع الأمور الصغيرة لتصبح جسراً ينقلني من حال إلى حال".
ولم يترك القدر لفدوى هذا السراج الذي لاح مضيئاً في سمائها المظلم، فقد أقيل أخوها من عمله في القسم العربي في الإذاعه الفلسطينية وغادر مع عائلته إلى العراق بضعة أشهر مرض فيها هناك، ثم عاد إلى نابلس ومات فيها، تقول فدوى: "وتوفي شقيقي إبراهيم فكانت وفاته ضربة أهوى بها القدر على قلبي ففجر فيه ينبوع ألم لا ينطفئ ومن هذا الينبوع تتفجر أشعاري على اختلاف موضوعاتها:".
وانكسر شيء في أعماقي، وسكنتني حرقة اليتم.
فدوى طوقان والشعر:
كانت فدوى تتابع أخاها إبراهيم في كتابته للشعر، وتوجيهه للطلاب الذين كانوا يكتبونه، وقد سمعته مرة وهو يحدث أمه عن تلميذين من تلاميذه قد جاءا إليه بقصائد من نظمهما خالية من عيوب الوزن والقافية، فقالت "نيالهم".
وعندما سمعها إبراهيم، وهي تتكلم بحسرة، كأنها تلومه على عطائه مع تلاميذه وتقصيره معها، فنظر إليها وصمت، ثم قال فجأة: سأعلمك نظم الشعر، هيا معي. كانت أمي قد سكبت له الطعام، ولكنه ترك الغرفة، ولحقت به، وارتقينا معاً السلم المؤدي إلى الطابق الثاني حيث غرفته ومكتبته. وقف أمام رفوف الكتب وراح ينقل عينيه فيها باحثاً عن كتاب معين. أما أنا فكان قلبي يتواثب في صدري، وقد كتمت أنفاسي اللاهثة، دقيقتين، وأقبل علي وفي يده كتاب الحماسة لأبي تمام، نظر في الفهرس ثم فتح الكتاب عند صفحته بالذات، قال: هذه القصيدة سأقرؤها لك وأفسرها بيتاً بيتاً ثم تنقلينها إلى دفتر خاص وتحفظينها غيباً، لأسمعها منك هذا المساء عن ظهر قلب.
ولم يكن اختيار إبراهيم مجرد اختيار عشوائي فقد اختار لها شعراً لامرأة ترثي أخاها، ثم يقول: لقد تعمدت أن أختار لك هذا الشعر لتري كيف كانت نساء العرب تكتب الشعر الجميل، وبدأت رحلة فدوى طوقان مع الشعر تحفظ القصائد التي يختارها لها إبراهيم، وبدأت تتعلم من جديد في مدرستها التي فتح إبراهيم إبوابها، تقول:
“هـا أنا أعود إلى الدفاتر والأقلام والدراسة والحفظ، ها أنا أعود إلى جنتي المفقودة، وعلى غلاف دفتر المحفوظات تلألأت بعيني هذه الكلمات التي كتبتها بخطي الردىء، خط تلميذة في الثالثة عشرة من العمر، الاسم: فدوى طوقان. الصف: شطبت الكلمة وكتبت بدلاً منها المعلم: إبراهيم طوقان. الموضوع: تعلم الشعر. المدرسة: البيت.
وبدت مرحلة جديدة في حياة فدوى طوقان، مرحلة تشعر فيها بذاتيتها وإنسانيتها وحقها في التعلم، وتجدد معها ثقتها بنفسها "أصبحت خفيفة كالطائر، لم أعد مثقلة القلب بالهم والتعب والنفس، في لحظة واحدة انزاح جبل الهوان وابتلعه العدم. وامتدت مكانه في نفسي مساحات مستقبل شاسع مضيئة خضراء كمروج القمح في الربيع".
وحاول المعلم أن يختبر رغبة أخته الصغرى في تعلم الشعر، فتوقف عن مراجعتها لفترة محدودة دون أية كلمة عن الدروس، وفي اليوم الرابع راجعته بصوت مرتعش: هل غيرت رأيك؟ ويأتي الجواب منه سريعاً: لم أغير رأيي، ولكنني توقفت لأتأكد من صدق رغبتك في التعلم، سنواصل اليوم الدرس.
بدأت فدوى طوقان تكتب على منوال الشعر العمودي، ومالت بعد ذلك إلى الشعر الحر.