التيار
العلماني في الوطن العربي
ـ
ما هو تعريف العلمانية ؟ إن لفظة "علمانية" ،
في الاصطلاح اللغوي ، تعني الزمانية أو الدنيوية . وتقابلها
، في اللغة الفرنسية لفظة Laïcité
. أما المعنى الأصلي
للكلمة فهو
Sécularisme المشتق من الكلمة اللاتينية :
Ciculum . ومن هذا
المضمون الدنيوي لمفهوم العلمانية صيغت مفاهيم أخرى
مرتبطة به مثل : المدينة ،
السلطة المدنية ، مما يُبعد عن العلمانية شبهة "اللادينية" أو معاداة الدين . أما لفظة اللاييكية المترجمة عن Laïcité الفرنسية ، فقد
تعرضت لتحريف من حيث مضمونها ودلالتها . ذلك أن أصل
الكلمة اليوناني "لايكوس"
يدل على ما ينتمي إلى عامة الناس ، في مقابل " الإكليروس" ، أي الكهنوت . وبسبب سوء الترجمة أو تحريف مضمونها استُعمِلت
"العلمانية" ="اللاييكية"
، في بعض الأوساط للدلالة على العداء للدين . إذن فالعلمانية هي مفهوم سياسي يقوم على الفصل بين المجال المدني
والمجال الديني ، بحيث إن
الدولة لا تمارس أية سلطة دينية لتبقى محايدة إزاء كل الأديان ولا تتحيز لأحدها ، وكذلك الكنائس لا تمارس أية سلطة سياسية
. ومن ثم فالعلمانية
هي دعوة إلى التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدس .
2 ـ متى
دخلت العلمانية العالم العربي ؟ ومن هم روادها ؟ إن العلمانية ، من حيث هي نفي القداسة عن الممارسة السياسية وعدم إخضاع
سلطات الدولة لسلطة ورقابة
رجال الدين ، يمكن رصد بوادر إدخالها إلى العالم العربي والإسلامي ابتداء من الصدمة الأولى التي أحدثها غزو نابوليون لمصر
في نفوس العرب والمسلمين
الذين اكتشفوا وضعية التخلف العام التي يوجدون عليها ، وهم خير أمة أخرجت للناس ، مقارنة مع وضعية التقدم والتفوق التي
توجد عليها الأمم الأوربية
المسيحية / الكافرة . ومن لحظتها طُرحت مشاريع متعددة ومتباينة لرسم أسس النهضة العربية . ومن تلك المشاريع المجتمعية
ما دعا إلى تبني النهج
الغربي / الأوربي في بناء المجتمع والدولة ، بحيث لا تبقى للمؤسسة الدينية سلطة على دواليب الدولة وأجهزة الحكم . وكان من
رواد هذا التيار : سلامة
موسى وشبلي شميل وآخرون . وظلت تتنازع الأمةَ تيارات ومذاهب لم تسمح ،
بسبب عوامل تاريخية وثقافية ، بالفرز الحقيقي لصالح هذا المذهب أو ذاك ، رغم المحاولات "القيصرية" التي أقدم عليها
زعماء سياسيون أمثال مصطفى كمال
أتاتورك لما ألغى نظام "الخلافة" ، أي ألغى
الطابع الديني عن السلطة السياسية
ووضع أسس دستور "علماني" يحظر الأحزاب الدينية والحكم باسم السماء . وكذلك تجربة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة
الذي سعى إلى جعل الممارسة
الدينية شأنا فرديا لا تتدخل فيه الدولة بقوانينها ، أي لا تكون الدولة نائبة عن الله في إكراه الناس على عبادته ، كما
لا تكون الممارسة السياسية
شأنا دينيا يخضع لمراقبة الفقهاء وينضبط لمقياس الحلال والحرام . يضاف إلى هذا التيار العلماني الليبرالي تيار آخر هو
التيار العلماني اليساري
الشيوعي والاشتراكي ، والذي تعزز وجوده في العالم العربي بانتصار الثورة البلشفية وتأسيس الاتحاد السوفييتي ، وسيتقوى مع
سياسية تصدير الثورة
إلى بلدان العالم الثالث التي انتهجها السوفييت ، خاصة تلك التي كانت تواجه الاحتلال أو الاستبداد . إلا أن التيارين معا
، الليبرالي واليساري
، فشلا في بناء دولة علمانية متكاملة الأركان والأسس .
3 ـ لماذا
فشل مشروع النخبة العلمانية العربية ؟ الحديث عن "مشروع" لدى النخبة العلمانية بحاجة إلى بعض التدقيق . ذلك أن النخبة
العلمانية ـ يسارية وليبرالية
ـ لم تكن تمتلك مشروعا مجتمعيا متكاملا وواضح المعالم . كل ما كانت تقدمه هو عبارة عن ملامح مجتمع تسود فيه المساواة
والعدالة الاجتماعية
ويسترجع مواطنوه كرامتهم . من هنا لم تكن تلك النخب العلمانية قادرة على إشراك الشعوب العربية في بلورة مشروع واضح
المعالم ، ومن ثم تعبئتها
للنضال من أجل تجسيده على أرض الواقع ، وجعلها ترى فيه ذاتها وآمالها . صحيح أن تلك النخب أفلحت في قيادة نضالات
شعوبها نحو التحرر من سيطرة
الاستعمار ، إلا أنها فشلت في تحديث المجتمعات وعصرنة بنيات الدولة . ذلك أن العلمانية لا يمكنها أن تتحقق إلا في إطار مناخ
ثقافي وسياسي يشيع
الحريات الفكرية والعامة ويضمن حقوق المواطنة ويفصل بين السلط ( التشريعية ، التنفيذية ، القضائية ، الدينية ) . فضلا عن
هذا ، فإن العلمانية
هي نتاج وعي ثقافي عام لدى الشعوب والنخب . ومشكلة التيار العلماني العربي لم يركز على الجانب الثقافي في مجتمعات
ينخرها الجهل والأمية
حتى النخاع قدر تركيزه على الجانب السياسي . وازداد أمر
العلمانيين تعقيدا لأسباب أبرزها :
أ ـ تجاوز التراث الثقافي الخاص بالشعوب العربية وعدم الاستناد إليه في تبيئة العلمانية
كمفهوم وكبرنامج مجتمعي
. بل إن فئة من العلمانيين حرفوا المفهوم وجعلوه في تعارض مع الدين أو مناهضا له . ولم يدركوا أن الشعوب العربية أشد
ارتباطا بالدين من مثيلاتها
في أوربا . فإذا كانت الشعوب الأوربية على استعداد لتجاوز الماضي وتهميش الدين ، فإن الشعوب العربية خلاف ذلك ، لأنها في
وضعية تاريخية حرجة
لا تملك ما تضاهي به شعوب الأرض غير ماضيها التليد الذي كانت لها فيه إمبراطوريات ذات صولة وقوة . وهذا الماضي صنعته بفضل
الدين . لهذا لا يمكن إقناعها
بتركه فأحرى معاداته . أما الشعوب الأوربية فارتبطت الكنيسة في لاوعيها الجمعي بالمآسي والاضطهاد . لذا فهي لم تصنع
أمجادا بفضل الدين ، ولن
تُمثل لها دعوات تهميش الدين أو معاداته أي تهديد لكيانها ، كما لن تحدث أي فراغ داخلها . لهذا فالإنسان العربي المسلم أشد
ارتباطا بتراثه وأكثر
تمثلا له ، لدرجة يصعب عليه حتى تجاوز الجوانب البيِّن عوارها . إن خلخلة البنيات الذهنية شيء ولا أصعب منه . فالعلمانيون
لم يؤسسوا مشروعهم على
هذا التراث المشترك بين الشعوب العربية ، ويستندوا إلى ما أنتجه رواد التنوير في العالم العربي ( قاسم أمين ، جمال الدين
الأفغاني ، محمد عبده ، عبد الرحمان الكواكبي ، علي عبد
الرازق ، طه حسين وغيرهم ) . لقد أحدث
هؤلاء ثقبا في الجدار لم يحسن العلمانيون استغلاله
للنفاذ إلى هذا الوجدان العربي
المتكلس ، وإحداث خلخلة تكون كوة تتسرب منها أنوار التحديث ونسائم التمدن . فكما أن التيار المحافظ لا يتوقف عن استغلال
التراث وتوظيف الدين بعد
بَدْوَنَته حتى يظل حاجزا ضد رياح التغيير وتيار العصرنة ، فإن التيار العلماني لا محيد له عن منافسة التيار المحافظ على
أرضيته ، وتوظيف نفس سلاحه .